ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكّة وعبدة الأوثان الماضين، وبعبارة أوضح، فإنّها تهدّدهم تهديداً شديداً، وتؤكّد ضمنياً على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم فتقول: (وكأيّن من قرية هي أشدّ قوة من قريّتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم).
فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل الله من أقدس المدن، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة، والله قادر على تدميرهم بكلّ سهولة، والقضاء عليهم يسير على الله سبحانه.
وجاء في رواية عن ابن عباس: إنّ النّبي (ص) لمّا خرج من مكّة إلى غار ثور، توجّه إلى مكّة وقال: "أنت أحبّ البلاد إلى الله، وأنت أحبّ البلاد إليَّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك"، فنزلت الآية أعلاه تبشّر النّبي (ص) بنصر الله، وتهدّد الأعداء بالعذاب والعقاب (3).
وطبقاً لسبب النّزول هذا تكون الآية مكيّة، لكن يبدو أنّ سبب النّزول هذا يتعلّق بالآية (85) من سورة القصص، وقد ذكره كثير من المفسّرين هناك، فهو ينسجم مع تلك الآية أكثر، إذ تقول: (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد) (4).
والملفت للنظر أنّ الآية نسبت الإخراج إلى نفس مكّة، في حين أنّ المراد أهلها، وهذه كناية لطيفة عن تسلّط فئة معيّنة، على مقدرات المدينة، وقد ورد نظير ذلك في مواضع أُخرى من القرآن المجيد.
ثمّ إنّ التعبير بالقرية - وكما قلنا ذلك مراراً - يطلق على كلّ مدينة وأرض عامرة مسكونة، ولا يخص المعنى المتعارف للقرية.
﴿وَكَأَيِّن﴾ وكم ﴿مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ﴾ مكة وأريد بالقريتين أهلهما ﴿الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ أي تسببوا لخروجك ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ من الإهلاك.