لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير أرجى آيات القرآن: الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو، إِلا "الشرك" فإِنّه لا يغفر أبداً، إِلاّ أن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحداً، وبعبارة أُخرى: ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إَزالة الإِيمان، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإِنسان إِذا كان مقروناً بالشرك (إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). إِنّ إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة إِنّما هو من جهة أن اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم - بهذه الآية - بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثمّ يبيّن في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول: (ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً)(1). وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إِلى رحمة الله ولطفه، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك، فهي كما جاء في حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال: "ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية". وهذه الآية - كما قال ابن عباس "ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأُمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت وعدّ منها هذه الآية"(2). لأنّ هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثمّ يقنطون من رحمة الله وغفرانه إِلى الأبد، فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق المعصية والخطأ بنفس القوّة والإصرار، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير وسيلة رادعة بالنسبة إِلى هؤلاء، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان، وعلى هذا الأساس فإِنّ هذه الآية تهدف - في الحقيقة - إِلى مسألة تربوية. فإِذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسّرين، ويعلم ذلك من الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال "وحشي" غلام هند وقاتل بطل الإِسلام حمزة بن عبدالمطلب عم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمن مع نزول هذه الآية، وينتهي عن جرائمه وشقاوته، فإِن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة الآخرين، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب والمعاصي. ويمكن أن يقال: إِنّ هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على الذنب وتغريهم بالمعصية، لما فيها من الوعد بالعفو عن "جميع الذنوب ما عدا الشرك". ولكن لا شك أنّ المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من كل قيد وشرط، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعاً من اللياقة والصلاح لمثل هذا العفو والغفران، وكما أشرنا إِلى ذلك في ما سبق، فإِن مشيئة الله - في هذه الآية والآيات المشابهة لها - بمعنى الحكمة الإِلهية، لأن مشئته تعالى لا تنفصل عن حكمته أبداً، ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد العفو الإِلهي من دون قابلية وصلاح لذلك. وعلى هذا الأساس فإِن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق - بمراتب كثيرة - إِمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها. أسباب مغفرة الذنوب: ثمّ إنّ النقطة الجديرة بالإِنتباه إنّ هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة، لأنّ التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك، بل المراد هو إمكان شمول العفو الإِلهي لمن لم يوفق للتوبة، يعني الذين يموتون قبل الندم من ذنوبهم، و بعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال الصالحة. وتوضيح ذلك: أنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أن وسائل التوصل إِلى العفو والمغفرة الإِلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة أُمور: 1 - التوبة والعودة إِلى الله تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة، والعزم على الإِجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة (والآيات الدّالة على هذا المعنى كثيرة) ومن جملتها قوله سبحانه: (وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات)(3). 2 - الأعمال الصّالحة المهمّة جدّاً والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة كما يقول سبحانه: (إن الحسنات يذهبن السيئات)(4). 3 - الشّفاعة التي مرّ شرحها في المجلد الأول عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. 4 - الإِجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين (31 و32) من هذه السورة. 5 - العفو الإِلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له، كما مرّ بحثه في تفسير هذه الآية. هذا ونكرر تذكيرنا بأن العفو الإِلهي مشروط ومقيد بالمشيئة الإِلهية، ولا يكون قضية مطلقة دون أي قيد أو شرط، بل تشمل هذه المشيئة والإِرادة خصوص الأشخاص الذين يثبتون بصورة عملية لياقتهم وصلاحيتهم لهذه الهبة الإِلهية بنحو من الأنحاء. ومن هنا يتّضح لماذا لا يكون الشرك ممّا يشمله العفو والغفران الإِلهي، فالسبب في ذلك هو: إنّ المشرك قد قطع صلته بالله بصورة كاملة، وارتكب ما يخالف كل الشرائع والأديان والقوانين الطبيعية والنّواميس الكونية. ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ لِمَن يَشَاء﴾ أي الشرك ﴿بِهِ﴾ بدون توبة للإجماع على غفرانه بها ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ ما سواه من الذنوب بدون توبة ﴿لمن يشاء﴾ تفضلا ومقتضاه الوقوف بين الخوف والرجاء ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ ارتكبه، والافتراء يقال للقول أو الفعل كالاختلاف.