وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمّة - هي في الحقيقة بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفاً: وتشكل أمرين في طاعة الله وتسبيحه وتقديره، وثلاثة أوامر منها في "طاعة" رسوله و"الدفاع عنه" و"تعظيم مقامه"، إذ تقول الآية: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزّروه وتوقّروه وتسبّحوه بكرةً وأصيلاً).
كلمة "تعزّروه" مشتقة من مادة تعزير، وهو في الأصل يعني "المنع" ثمّ توسّعوا فيه فأطلق على كلّ دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب "التعزير" أيضاً.
وكلمة "توقّروه" مشتقة من مادة توقير، وجذورها "الوقر" ومعناها الثِقَل... فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.
وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ الضميرين في "تعزّروه" و"توقّروه" يعودان على شخص النّبي (ص) والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه "وقد اختار هذا التّفسير الشيخ الطوسي في "التبيان" و"الطبرسي" في مجمع البيان وغيرهما أيضاً".
غير أنّ جماعة من المفسّرين (4) ذهبوا إلى أنّ جميع الضمائر في الآية تعود على الله، والمراد بالتعزير والتوقير هنا نصرة دين الله وتعظيمه وتكريمه دينه ودليلهم على هذا التّفسير انسجام جميع الضمائر بعضها مع بعض.
غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ "التعزير" أولاً: معناه في الأصل المنع وذبُّ الأعداء والدفاع عن "الشخص"، ولا يصحّ ذلك في شأن الله إلاّ على سبيل "المجاز" فحسب!
وأهمُ من ذلك هو شأن نزول الآية، إذ أنّها نزلت بعد صلح الحديبية وكان بعضهم يسيءُ التعامل مع النّبي ولا يحترم مقامه الكريم، وقد نزلت الآية لتنبه المسلمين على ما ينبغي عليهم من الوظائف بالنسبة إلى رسول الله (ص).
ثمّ لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية هي بمثابة النتيجة للآية السابقة التي وصفت النّبي بأنّه "شاهدٌ ومبشرٌ ونذير" وهذا الأمر يهيء الأرضية المناسبة للآية التي بعدها.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة "بيعة الرضوان" وقد جاء التفصيل عنها في الآية (18) من السورة ذاتها!
وتوضيح ذلك هو: كما قلناه آنفاً إنّ النّبي (ص) رأى في منامه كما تقول التواريخ أنّه دخل مع أصحابه مكّة، فتوجّه على أثر هذه الرؤيا مع ألف وأربعمائة صحابي إلى مكّة، إلاّ أنّ قريشاً صمّمت على منعه وهو على مقربة من مكّة... فتوقف النّبي (ص) مع أصحابه في منطقة الحديبيّة... وتمّ تبادل المبعوثين بين قريش والنّبي حتى انتهى الأمر إلى معاهدة صلح الحديبيّة!
وفي عملية تبادل السفراء والمبعوثين، أُمر عثمان مرّةً أن يبلغ أهل مكّة - من قِبل النّبي - أنّه لا يريد الحرب ولا القتال وإنّما يريد العمرة فحسب، إلاّ أنّ المشركين من أهل مكّة أوقفوا عثمان مؤقتاً وكان هذا الأمر سبباً أن يشيع بين المسلمين خبر قتل عثمان، ولو كان هذا الموضوع صحيحاً لكان دليلاً على إعلان قريش الحرب ومنازلة النّبي (ص) لذلك فإنّ النّبي قال: "لا نبارح مكاننا "الحديبيّة" حتى نأخذ البيعة من قومنا"، فطلب تجديد البيعة... فاجتمع المسلمون وبايعوا النّبي (ص) تحت شجرة هناك على أن لا يتركوا النبي وراءهم ظِهريّاً وأن يقاتلوا مع النّبي أعداءه ويذبّوا عنه ما دام فيهم طاقة على ذلك.
فبلغ هذا الأمر سمع المشركين ودبّ الرعب فيهم، وهذا ما دعاهم إلى الصلح مع النبي.
ومن هنا سمّيت مبايعة المسلمين نبيّهم تحت الشجرة بيعة الرضوان حيث وردت الإشارة إليها في الآية (18) من السورة ذاتها: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ خطاب للنبي وأمته وقرىء بالياء وكذا في الثلاثة بعده ﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ تنصروه بنصر دينه ورسوله ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ تعظموه بتعظيم دينه ورسوله أو الهاء فيهما للرسول وفي ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ لله ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ غدوة وعشيا أو دائما.