لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ويضيف القرآن إكمالاً للمعنى في نهاية الآية قائلاً: (ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم). صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة، إلاّ أنّ الصبر في مثل هذا "المقام" والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم. وحيث أنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلاً هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإنّ القرآن يضيف قائلاً إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة: (والله غفور رحيم). بحوث 1- الأدب أغلى القيم اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالإحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة، ونشير إلى طائفة من الأحاديث الشريفة هنا على أنّها شواهد وأمثال لهذا العنوان... 1- يقول الإمام علي (ع): "الآداب حُللٌ مجدّدة" (9). ويقول في مكان آخر: الأدب يُغني عن الحسب (10). كما أنّنا نقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق (ع) يقول فيه: "خمس من لم تكن فيه لم يكن كثير فيه مستمتع; قيل: وما هنّ يا بن رسول الله قال (ع): الدين والعقل والحياء وحُسن الخلق وحسن الأدب" (11). ونقرأ في مكان آخر حديثاً عنه (ع) أيضاً يقول فيه: لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن ولا الخبّ في كثرة الصديق ولا السيء الأدب في الشرف (12)... ولذلك فإنّنا حين نقرأ تأريخ حياة القادة في الإسلام وننعم النظر فيها نلاحظ أنّهم يراعون أهم النقاط الحسّاسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى مع الأناس البسطاء، وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرّسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم، أو الأب والأم والعالم والمفكّر... والتدقيق في آيات القرآن الكريم يكشف عن أنّ الله سبحانه بما له من مقام العظمة حين يتكلّم مع عباده، يراعي الآداب بتمامها... فحيث يكون الأمر على هذه الشاكلة فمن المعلوم عندئذ ما هي وظيفة الناس أمام الله؟ وما هو تكليفهم؟! ونقرأ في بعض الأحاديث الإسلامية أنّه حين نزلت الآيات الأُولى من سورة "المؤمنون" وأمرتهم بسلسلة من الآداب الإسلامية، ومنها مسألة الخشوع في الصلاة، وكان النّبي (ص) ينظر أحياناً إلى السماء عند الصلاة ثمّ ينظر إلى الأرض مطرقاً برأسه "لا يرفعه" (13). وفي ما يخص النّبي (ص) كان هذا الموضوع ذا أهمية أيضاً إذ صرّح القرآن في آياته بالإعراض عن اللغو عنده وعدم رفع الصوت والصخب، فكلّ ذلك موجب للحبط في الأعمال واضمحلال الثواب. وواضح أنّه لا تكفي رعاية هذه المسألة الخلقيّة عند النّبي فحسب، بل هناك أمور أخرى ينبغي مراعاتها في حضوره، وكما يعبّر الفقهاء ينبغي إلغاء الخصوصية هنا وتنقيح المناط بما سبق أشباهه ونظائره! ونقرأ في سورة النور الآية (63) منها: (لا تجعلوا دعاء الرّسول كدعاء بعضكم بعضاً)... وقد فسّرها جماعة من المفسّرين بأنّه "عندما تنادون النّبي فنادوه بأدب واحترام يليقان به لا كما ينادي بعضكم بعضاً"... الطريف هنا أنّ القرآن عدّ أُولئك الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ويراعون الأدب بأنّهم مطهّرو القلوب وهم مهيّأون للتقوى، وجديرون بالمغفرة والأجر العظيم... في حين أنّه يعدّ الذين ينادونه من وراء الحجرات ويسيئون الأدب عنده - كالأنعام - أكثرهم لا يعقلون. حتى أنّ بعض المفسّرين توسّعوا في الآيات محل البحث وجعلوا لها مراحل أدنى أيضاً بحيث تشمل المفكّرين والعلماء والقادة من المسلمين، فوظيفة المسلمين أن يراعوا الآداب بين أيديهم... وبالطبع فإنّ هذه المسألة أكثر وضوحاً في شأن الأئمة أولي العصمة، حتى أنّه بلغنا بعض الروايات الواردة عن أهل البيت أنّه "حين دخل أحد الأصحاب على الإمام بادره الإمام دون مقدّمة: أما تعلم أنّه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت الأنبياء" (14). وورد التعبير في رواية أُخرى بهذه الصورة: "أنّ بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب". وملخص القول أنّ مسألة رعاية الآداب أمام الكبير والصغير تشمل قسماً كبيراً من التعليمات الإسلامية بحيث لو أردنا أن ندرجها ضمن بحثنا هذا لخرجنا عن تفسير الآيات، إلاّ أنّنا نختم بحثنا بحديث عن الإمام علي بن الحسين (السجّاد) في "رسالة الحقوق" حيث قال في "مورد رعاية الأدب أمام الأستاذ": "وحقّ سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الإستماع إليه والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب ولا تحدّث في مجلسه أحداً ولا تغتاب عنده أحداً وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدواً ولا تعادي له ولياً فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلَّ اسمه لا للناس" (15). 2 - رفع الصوت عند قبر الرسول قال جماعة من العلماء والمفسّرين أنّ الآيات محل البحث كما أنّها تمنع رفع الصوت عند النّبي حال حياته فهي كذلك شاملة للمنع بعد وفاته (16). وإذا كان المراد من تعبيرهم آنفاً شمول العبارة في الآية، فظاهر الآية يخصُّ زمان حياته (ص) لأنّها تقول: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) وذلك في حالة ما يكون النّبي له حياة جسمانية وهو يتكلّم مع أحد فلا يجوز رفع الصوت فوق صوته... لكن إذا كان مرادهم - المناط - وفلسفة الحكم - وهي واضحة في هذه الموارد وأمثالها - وأهل العرف - يُلغون "الخصوصية"، فلا يبعد التعميم المذكور. لأنّه من المسلّم به - أنّ الهدف هنا رعاية الأدب واحترام ساحة قدس النبي، فعلى هذا متى ما كان رفع الصوت عند قبره نوعاً من هتك الحرمة فهو بدون شكّ غير جائز، إلاّ أن يكون أذاناً للصلاة أو تلاوةً للقرآن أو إلقاء خطبة... وأمثال ذلك فإنّ هذه الأُمور ليس فيه أي إشكال لا في حياة النّبي ولا بعد وفاته... ونقرأ حديثاً في أصول الكافي نُقل عن الإمام الباقر في شأن ما جرى للحسن بعد وفاته وممانعة عائشة عن دفنه في جوار رسول الله جاء فيه أنّه حين ارتفعت الأصوات استدل الإمام الحسين (ع) بالآية: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) ونقل عن رسول الله (ص) قوله: إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياءاً (17). وهذا الحديث شاهد آخر على عموم مفهوم الآية! 3 - الإنضباط الإسلامي في كلّ شيء وفي كلّ مكان! إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الإنضباط، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة - حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين. وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً... ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النّبي (ص) أو بعده، ومن أوضح الأُمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أُحُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين. والقرآن يثير هذه المسألة المهمّة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب جامع طريف إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله). ومفهوم الآية كما أشرنا سابقاً واسع إلى درجة أنّها تشمل أي نوع من أنواع التقدّم والتأخّر والكلام والتصرّفات الذاتية الخارجية عن تعليمات القيادة... ومع هذه الحال فإنّنا نلاحظ في تاريخ حياة النّبي (ص) موارد كثيرة يتقدّم فيها بعض الأفراد على أمره أو يتخلّفون ويلون رؤوسهم فيكونون موضع الملامة والتوبيخ الشديد... ومن ذلك ما يلي... 1 - حين تحرّك النّبي (ص) لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان وكان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولمّا بلغ (منزل) كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرّسول وافطر ثمّ أفطر من كان معه، إلاّ أنّ العجيب أنّ جماعة منهم (تقدّم على النبي) ولم يوافقوا على الإفطار وبقوا صائمين فسمّاهم النّبي (ص) بالعُصاة (18)! 2 - ومثل آخر ما حدث في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر النبيّ أن ينادي المنادي: "من لم يسق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه" ثمّ يؤدّي مناسك الحج وأنّ من جاء بالهدي (وحجّه حجّ إفراد) فعليه أن يبقى على إحرامه... ثمّ قال (ص) "لولا أنّي سقت الهدي لأحللت، وجعلتها عمرةً، فمن لم يسق هدياً فليحلّ". إلاّ أنّ جماعة أبوا وقالوا كيف يمكننا أن نحل وما يزال النّبي محرماً أليس قبيحاً أن نمضي للحج بعد أداء العمرة ويسيل منّا ماء الغسل "من الجنابة". فساء النّبي ما قالوا ووبّخهم ولامهم (19). 3 - قصة التخلّف عن جيش أُسامة عندما أراد النّبي (ص) أن يلتحق بالرفيق الأعلى معروفة حيث أمر (ص) المسلمين أن ينفّذوا جيش أُسامة بن زيد ويتحرّكوا إلى حرب الروم وأمر المهاجرين والأنصار أن يتحرّكوا مع هذا الجيش...ولعلّ النّبي (ص) أراد ألاّ تقع عند رحلته مسائل في أمر الخلافة - وقد وقعت - حتى أنّه لعن المتخلّفين عن جيش أُسامة ومع كلّ ذلك تخلّف جماعة بحجة أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا النّبي في مثل هذه الظروف (20)!!... 4 - قصة "القلم والدواة" معروفة أيضاً وهي في الساعات الأخيرة من عمر النّبي (ص) كما أنّها مثيرة والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة في صحيح مسلم بعينها هنا: "لمّا حُضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي: هلمّ اكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده، فقال عمر إنّ رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا" (21)!... وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذا الحديث عينه نقله البخاري في صحيحه باختلاف يسير جداً "صحيح البخاري، ج6، باب مرض النبي، ص11". وهذه القضية من الحوادث المهمّة في التأريخ الإسلامي التي تحتاج إلى تحليل وبسط ليس هنا محلّه ولكنّها على كلّ حال من أجلى موارد التخلّف عن أمر النّبي ومخالفة الآية محل البحث: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله)... وما يهمّنا هنا أنّ رعاية الإنضباط الإسلامي والإلهي تحتاج إلى روح التسليم المطلق وقبول القيادة "الإلهية" في جميع شؤون الحياة والإيمان المتين بمقام القائد الشامخ... ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ﴾ الصبر ﴿خَيْرًا لَّهُمْ﴾ في دينهم بنيل الثواب ودنياهم بأن يوصفوا بالعقل والأدب ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن تاب منهم.