والآية التالية - وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة - تضيف قائلةً: (واعلموا أنّ فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم) (5).
وتدلّ هذه الجملة - كما قاله جماعة من المفسّرين أيضاً - أنّه بعد أن أخبر "الوليد" بارتداد طائفة "بني المصطلق"... ألحّ جماعة من المسلمين البسطاء السذّج ذوي النظرة السطحية على الرّسول أن يقاتل الطائفة آنفة الذكر... فالقرآن يقول: من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي فمتى ما بدت فيكم بوادر الانحراف فسيقوم بإرشادكم عن هذا الطريق، فلا تتوقّعوا أن يطيعكم ويتعلّم منكم ولا تصرّوا وتلحّوا عليه، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم... ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة أُخرى من مواهب الله سبحانه فيقول: (ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان).
وفي الحقيقة أنّ هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي "اللطف التكويني".
وتوضيح ذلك أنّه حين يريد الشخص الحكيم أن يحقّق أمراً فإنّه يوفّر له جميع ما يلائمه من كلّ جهة ويصدق هذا الأصل في شأن الناس تماماً... فالله يريد أن يطويَ الناس جميعاً طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم، ولذا يرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة، ويحبّب إليهم الإيمان من جهة أخرى، ويُضري شعلة العشق نحو طلب الحق والبحث عنه في داخل النفوس ويكرّه إليها الكفر والفسوق والعصيان... وهكذا فإنّ كلّ إنسان مفطور على حبِّ الإيمان والطهّارة والتقوى، والبراءة من الكفر والذنب.
إلاّ أنّه من الممكن أن يتلوّث ماء المعنويات المنصبّ في وجود الناس في المراحل المتتالية وذلك نتيجةً للإختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان... هذه الموهبة الفطرية تدعو الناس إلى إتباع رسول الله وعدم التقدّم بين يديه.
وينبغي التذكير بهذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ محتوى الآية لا ينافي المشاورة أبداً، لأنّ الهدف من المشاورة أو الشورى أن يعرب كلٌّ عن عقيدته ووجهة نظره، إلاّ أنّ الرأي الأخير والنظر النهائي لشخص النّبي (ص) كما يستفاد ذلك من آية الشورى أيضاً...
وبتعبير آخر... إنّ الشورى هي موضوع مستقل، وفرض الرأي موضوع آخر، فالآية محل البحث تنفي فرض الرأي لا المشاورة.
وفي أنّ المراد من "الفسوق" المذكور في الآية ما هو؟! قال بعض المفسّرين هو الكذب، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى سعة مفهومه اللغوي فإنّه يشمل كلّ خروج على الطاعة، فعلى هذا يكون التعبير بـ"العصيان" بعده تأكيداً عليه، كما أنّ جملة (وزيّنه في قلوبكم) تأكيد على الجملة السابقة لها: (حبَّب إليكم الإيمان).
وقال بعضهم إنّ كلمة "الفسوق" إشارة إلى الذنوب الكبيرة في حين أنّ "العصيان" أعم منه... إلاّ أنّه لا دليل على ذلك... وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يقرِّر قاعدةً كليةً وعامةً في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة (فيها) فتقول: (أُولئك هم الراشدون).
أي لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية "العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق" ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شكّ في انتظاركم... وممّا يستجلب النظر أنّ الجمل السابقة في الآية كانت بصيغة الخطاب للمؤمنين لكنّ هذه الجملة: (أولئك هم الراشدون) تتحدّث عنهم بصيغة "الغائب" ويبدو أنّ هذا التفاوت في التعبير جاء ليدلّ على أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأصحاب النبي، بل هو قانون عام، فكلّ من حفظ صفاءه الفطري في أي عصر وزمان هو من أهل الرشد والهداية والنجاة.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾ الذي تريدون أن يتبع رأيكم فيه ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ لوقعتم في العنت والمشقة ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾ جحود الحق ﴿وَالْفُسُوقَ﴾ الخروج عن القصد ﴿وَالْعِصْيَانَ﴾ ضد الإطاعة ﴿أُوْلَئِكَ﴾ المستثنون ﴿هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ المهتدون إلى كل خير.