أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أن محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول: (فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم) (6).
فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود... "وهو الجنّة".
والظاهر أنّ الفضل والنعمة كليهما إشارة إلى حقيقة واحدة، هي المواهب الإلهية التي يمنحها عباده، غايةً ما في الأمر أنّ "الفضل" إنّما سُمّي فضلاً لأنّ الله غير محتاج إليه و"النعمة" إنّما سمّيت نعمة لأنّ العباد محتاجون إليها، فهما بمثابة الوجهين لعملة واحدة!...
ولا شكّ أنّ علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان).
ملاحظات
1 - هداية الله وحريّة الإرادة
إنّ الآيات الآنفة تجسيدٌ بيّن لوجهة نظر الإسلام في مسألة "الجبر والإختيار" والهداية والإضلال، لأنّها توضح هذه اللطيفة - بجلاء - وهي أنّ الله يهيئ المجال "والأرضية" للهداية والرشد، فمن جهة يبعث رسوله ويجعله بين الناس وينزل القرآن الذي هو نور ومنهج هداية; ومن جهة يلقي في النفوس العشق للإيمان ومحبّته; والتنفّر والبراءة من الكفر والعصيان، لكنْ في النهاية يوكل للإنسان أن يختار ما يشاء ويصمّم بنفسه، ويشرع سبحانه التكاليف في هذا المجال!...
وطبقاً للآيات المتقدّمة فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة اخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم، فإنّ الله لم يُلقِ في قلب أيّ شخص حُبَّ العصيان وبغض الإيمان...
2 - القيادة والطاعة
هذه الآيات تؤكد مرّةً أُخرى أنّ وجود القائد "الإلهي" ضروري لرشد جماعة ما، بشرط أن يكون مطاعاً لا مطيعاً وأن يتّبع أصحابه وجماعته أوامره لا أن يؤثّروا عليه ويفرضوا عليه آراءهم (ابتغاء مقاصدهم ومصالحهم).
وهذه المسألة لا تختصّ بالقادة الإلهيين فحسب، بل ينبغي أن تكون حاكمة في المديرية والقيادة في كلّ مكان.
وحاكمية هذا الأصل لا تعني استبداد القادة، ولا ترك الشورى كما أشرنا آنفاً وأوضحنا ذلك.
3 - الإيمان نوع من العشق لا إدراك العقل فحسب...
هذه الآيات تشير ضمناً إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإيمان نوع من العلاقة الإلهية الشديدة "والمعنوية" وإن كانت من الإستدلالات العقلية... ولذلك فإنّنا نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (ع) حين سألوه: هل الحب والبغض من الإيمان، فأجاب (ع): "وهل الإيمان إلاّ الحبّ والبغض"؟! ثمّ تلا هذه الآية: (... ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون) (7).
وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (ع) قوله في هذا المجال "وهل الدين إلاّ الحبّ"؟! ثمّ استدلّ (ع) ببعض الآيات منها هذه الآية محل البحث وقال بعدئذ: "الدين هو الحبّ والحبّ هو الدين" (8).
إلاّ أنّه ودون أدنى شكّ يجب أن تُرفد هذه المحبّة - كما نوّهنا آنفاً - بالوجوه الإستدلالية والمنطقيّة لتكون مثمرة عندئذ...
﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ علة ل حبب، وكره وما بينهما اعتراض ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بأحوالهم ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيرهم.