لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول ذكر المفسّرون لهاتين الآيتين شأناً "في نزولهما" بل شؤوناً مختلفة، منها أنّ جملة (لا يسخر قومٌ من قوم) نزلت في "ثابت بن قيس" خطيب النّبي (ص) الذي كان ثقيل السمع وكان حين يدخل المسجد يجلس إلى جنب النّبي ويُوّفَر له المكان عنده ليسمع حديث النبي، وذات مرّة دخل المسجد والمسلمون كانوا قد فرغوا من صلاتهم وجلسوا في أماكنهم، فكان يشقّ الجموع ويقول: تفسّحوا، تفسّحوا حتى وصل إلى رجل من المسلمين فقال له: اجلسْ (مكانك هنا) فجلس خلفه مُغضَباً حتى انكشفت العُتمة فقال ثابت لذلك الرجل: من أنت فقال: أنا فلان فقال له: ثابت ابن فلانة؟! وذكر اسم أُمّه بما يكره من لقبها... وكانت تعرف به في زمان الجاهلية فاستحيى ذلك الرجل وطأطأ برأسه إلى الأرض، فنزلت الآية ونهت المسلمين عن مثل هذا العمل... وقيل إنّ جملة (ولا نساء من نساء) نزلت في أُمِّ سلمة إحدى أزواج النّبي (ص) لأنّها كانت تلبس لبوساً خاصاً أو لأنّها كانت قصير فكانت النساء يسخرن منها، فنزلت الآية ونهت عن مثل هذه الأعمال!. وقالوا إنّ جملة (ولا يغتب بعضكم بعضاً) نزلت في نفرين من الصحابة اغتابا صاحبهما "سلمان" لأنّهما كانا قد بعثاه نحو النّبي (ص) ليأتيهما بطعام منه، فأرسل النّبي سلمان نحو "أسامة بن زيد" الذي كان مسؤول بيت المال فقال أسامة ليس عندي شيء الآن... فاغتابا أسامة وقالا إنّه بخيل وقالا في شأن سلمان: لو كنّا أرسلناه إلى بئر سميحة لغاض ماؤها "وكانت بئراً غزيرة الماء" ثمّ انطلقا ليأتيا أسامة وليتجسّسا عليه، فقال لهما النّبي (ص) إنّي أرى آثار أكل اللحم على أفواهكما: فقالا يا رسول الله لم نأكل اللحم هذا اليوم فقال رسول الله: أجل تأكلون لحم سلمان وأسامة. فنزلت الآية ونهت المسلمين عن الإغتياب (1). التّفسير الإستهزاء وسوء الظنّ والغيبة والتجسّس والألقاب السيئة حرام! حيث أنّ القرآن المجيد اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيَّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الإختلافات ليزول الإختلاف (بقطعها) ويُحسم النزاع! ففي كلّ من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أُمور يمكن أن يكون كلّ منها شرارة لإشتعال الحرب والإختلاف، إذ تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث أوّلاً: (يا أيّها الذين آمنوا لا يَسخر قوم من قوم). لأنّه (عسى أن يكونوا خيراً منهم). (ولا نساءٌ من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن). والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يَعمُّ الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح، لأنّ أساس السخرية والإستهزاء هو الإحساس بالإستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ! وهذا الإستعلاء أو التكبّر غالباً ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية فمثلاً، فلانٌ يرى نفسه أكثر مالاً من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنّه يُعدُّ من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها، وربَّما يسوقه تصوّره بأنّه أفضل من الجماعة الفلانية علماً وعبادةً ومعنوية إلى السخرية منهم، في حين أنّ المعيار الواقعي عند الله هو "التقوى" التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النيّة والتواضع والأخلاق والأدب!. ولا يصحّ لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي، ولذلك عُدَّ تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الاُمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعاً. ثمّ تقول الآية في المرحلة الثانية: (ولا تلمزوا أنفسكم). كلمة "تلمزوا" هي من مادة "لَمْز" على زنة "طنز" ومعناها تتّبع العيوب والطعن في الآخرين، وفسّر بعضهم الفرق بين "الهمز" و"اللمز" بأنّ "اللمز" عدّ عيوب الناس بحضورهم، و"الهمز" ذكر عيوبهم في غيابهم، كما قيل أنّ "اللمز" تتبّع العيوب بالعين والإشارة في حين أنّ "الهمز" هو ذكر العيوب باللسان "وسيأتي تفصل هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الهمزة"... الطريف أنّ القرآن في تعبير "بأنفسكم" يُشير إلى وحدة المؤمنين وأنّهم نسيجٌ واحد، ويبيّن هنا بأنّ جميع المؤمنين بمثابة النفس الواحدة فمن عاب غيره فإنّما عاب نفسه في الواقع!. وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضاً قائلة: (ولا تنابزوا بالألقاب). هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديماً وحديثاً، ماضياً وحاضراً مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربَّما انتقموا منهم أحياناً عن هذا الطريق، وقد يتّفق أنّ شخصاً كان يعمل المنكرات سابقاً، ثمّ تاب وأناب وأخلص قلبه لله، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه! الإسلام نهى عن هذه الأُمور بصراحة ومنع من إطلاق أي إسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاةً لتحقير المسلم... ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ "صفية بنت حيي بن أخطب" المرأة اليهودية التي أسلمت بعد فتح خيبر وأصبحت زوجة النّبي - جاءت صفية يوماً إلى النّبي وهي باكية العين فسألها النّبي عن سبب بكائها فقالت: إنّ عائشة توبّخني وتقول لي يا ابنة اليهودي، فقال لها النّبي (ص): فلمَ لا قلت لها: أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد فكان أن نزلت هذه الآية - محل البحث - (2). ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلةً: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) أي قبيح جدّاً على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر. واحتمل بعض المفسّرين احتمالاً آخر لهذه الجملة المذكورة آنفاً وهي أنّ الله نهى المؤمنين أن يرضوا بأسماء الفسق والجاهلية لأنفسهم بسبب سخرية الناس ولتحاشي استهزائهم. ولكن مع الالتفات إلى صدر الآية وشأن النّزول المذكور يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب. وتُختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول: (ومن لم يتُبْ فأولئك هم الظالمون). وأي ظلم أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و"اللاسعة" والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي "مركز عشق" الله وأن يطعن في شخصياتهم ويبتذل كرامتهم التي هي أساس شخصيتهم. ماء وجوههم الذي هو أساس حياتهم الأهم. وقلنا إنّ في كلٍّ من الآيتين - محل البحث - ثلاثة أحكام في مجال الأخلاق الإجتماعية. فالأحكام الثلاثة في الآية الأولى هي "عدم السخرية" و"ترك اللمز" و"ترك التنابز بالألقاب". والأحكام الثلاثة في الآية الثانية هي "اجتناب سوء الظن" و"التجسّس" و"الإغتياب". ﴿يا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ﴾ رجال منكم ﴿مِّن قَوْمٍ﴾ خص بالرجال لأنهم قوامون على النساء ﴿عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ عند الله ﴿وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي لا يعيب بعضكم بعضا لأنكم كنفس واحدة ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ أي بئس الذكر أن يذكر الرجل بالفسوق كاليهودية بعد إيمانه أو المعنى أن التنابز فسق يقبح الجمع بينه وبين الإيمان ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ﴾ عما نهي عنه ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بإصرارهم على المعاصي.