التّفسير
القيامة - والبصر الحديد ـ:
تعكس الآيات أعلاه مسائل اُخرى تتعلّق بيوم المعاد: "مشهد الموت" و "النفخ في الصور" و "مشهد الحضور في المحشر"!
فتقول أوّلا: (وجاءت سكرة الموت بالحقّ).
سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الإضطراب والإنقلاب والتبدّل، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.
وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة إنتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة، وأن يخطو في عالم جديد عليه مليء بالأسرار، خاصّة أنّ الإنسان - لحظة الموت - يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد - فهو يلاحظ عدم إستقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملّكه حالة الرعب والإستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سَكِراً وليس بسكر(1).
حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت بإطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب، ويصابون ببعض العقبات في حالة الإنتقال، كما قد ورد في حالات إنتقال روح النّبي الأكرم (ص) إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول: (لا إله إلاّ الله) ثمّ يقول: (إنّ للموت سكرات)(2).
وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول: "إجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها"(3).
كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول: "إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب"(4).
ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا: (ذلك ما كنت منه تحيد)(5) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم.
أيّاً كان فهم منه يهربون ..
ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه، ولابدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.
وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.
والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات اُخر كما هو في الآية (78) من سورة النساء إذ يقول: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة)!.
وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها باُمّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجةً يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد: (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال).
ولكن سواء أقسم أم لم يقسم، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.
﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ شدته المزيلة للعقل وعبر بالماضي لقربه ﴿بِالْحَقِّ﴾ بحقيقة الأمر ﴿ذَلِكَ﴾ أي الموت ﴿مَا كُنتَ﴾ يا إنسان ﴿مِنْهُ تَحِيدُ﴾ تهرب.