لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). أجل، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم، لأنّ هذا اليوم يوم البروز ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر! ولذلك فقد وجدت عيناً حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة. أجل، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفياً ولا لثام على جمال الحبيب، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته. إلاّ أنّ الغرق في بحر الطبيعة والإبتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة، وأساساً فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق! حتّى في هذه الدنيا إستطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصراً حديداً يرون به الحقائق، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه. وينبغي الإلتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمُدية، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة، بل بصر العقل والقلب. يقول الإمام علي (ع) في أولياء الله في أرضه: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى اُولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه"(6). بحوث 1 - حقيقة الموت يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء، إلاّ أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبداً. فالموت في نظر القرآن أمر وجودي، وهو إنتقال وعبور من عالم إلى آخر، ولذلك عُبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ "تُوفّي" ويعني تسلّم الروح وإستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة. والتعبير في الآيات المتقدّمة (وجاءت سكرة الموت بالحقّ) هو إشارة إلى هذا المعنى(7) أيضاً، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق: (الذي خلق الموت والحياة) (الملك - 2). وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل: ما الموت؟ فقال (ع): "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والإستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطىء المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والإستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب". وسئل الإمام محمّد بن علي(ع) السؤال الآنف ذاته فقال: "هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلاّ أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلاّ يوم القيامة"(8). وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق، وبعضهم "كالشهداء في سبيل الله والمؤمنين الراسخين" ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم! وقد بيّن الإمام الحسين (ع) لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند إشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال: "صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة، والنِعم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"(9).. ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفر (ع) دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يُكلّم أحداً، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر: يابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟ فقال (ع): "الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد"(10). 2 - سكرات الموت كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت، وقلنا أنّ "السكرات" جمع سكرة، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر إشتداد حالة الإنسان فيضطرب منها فيرى سِكراً وليس بِسَكِر! صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية إنتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب الله، إلاّ أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الإنتقالية ليست سهلة لأي إنسان، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وإرتبطت به. ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادق (ع) عن سبب إضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب: لأنّه نما عليها البدن(11). وهذا يشبه تماماً حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالإلم إلاّ أنّه يشعر بالراحة بعدئذ. ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت، ويوم يبعث حيّاً في عرصات القيامة فيرى أحكاماً لم يرها في هذه الدنيا .. لذلك فإنّ القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً)(12).. ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!. وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون إنتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألماً ومرارة!. 3 - الموت حقّ ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين، إذ نقرأ في الآية (99) من سورة الحجر (واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين). وفي الآية (47) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضاً. كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لابدّ أن يُطرق بابه، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيراً. والإلتفات - إلى حقيقة الموت - يُعدّ إنذاراً لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له! الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال: إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره، فأمر عمر به فحُبس، فبلغ ذلك علياً (ع)فقال: ياعمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال: ولِمَ؟ فقال علي: إنّه - يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة)(13) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ (وجاءت سكرة الموت بالحقّ)(14) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر: لولا علي لهلك عمر(15). ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا﴾ الأمر ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ﴾ غفلتك عن ذلك ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ حاد نافذ لا يحجبه شيء لزوال الغواشي والحجب والشهوات.