لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تُقسم فتقول: (فوربّ السماء والأرض إنّه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون). وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئِنَ عباده الشاكّين ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حقّ ولا ريب في كلّ ذلك(4). والتعبير بـ (مثل ما أنّكم تنطقون) تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدّث عن أكثر الأشياء لمساً، لأنّه قد يخطىء الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهّم أنّه سمع أو رأى، إلاّ أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّه قال شيئاً مع أنّه لم يقله .. لذلك فإنّ القرآن يقول: كما أنّ ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع، فإنّ الرزق والوعد الإلهي عنده كذلك! ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهيّة التي لم يتمتّع بها أي موجود حيّ سوى الإنسان، وليس بخاف أثر الكلام والنطق في الحياة الإجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وإنتقال العلوم وحلّ مشاكل الحياة على أحد. بحوث 1 - قصّة الأصمعي المثيرة ينقل الزمخشري في كشّافه عن الأصمعي(5) أنّه قال خرجت من مسجد البصرة فبصرت بأعرابي من أهل البادية راكباً على دابته فواجهني وسألني: من أي القبائل أنت؟! فقلت من بني الأصمع .. فقال من أين تأتي؟ فقلت: من مكان يقرأ فيه كلام الله فقال لي: اقرأ لي منه، فقرأت له آيات من سورة الذاريات حتّى بلغت (وفي السماء رزقكم) فقال كفى. ثمّ نهض وعمد إلى بعير عنده فنحره وقسّم لحمه على المحتاجين من الذاهبين والآيبين ثمّ عمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما أيضاً وألقاهما جانباً وإستدار إلى الوراء ومضى وإنتهت هذه القصّة!. وحين مضيت إلى حجّ بيت الله الحرام بمعيّة هارون الرشيد وكنت مشغولا في الطواف إذا أنا برجل يناديني بصوت ضعيف فنظرت فإذا هو ذلك الأعرابي وكان نحيلا مصفرّ الوجه "وكان يظهر عليه العشق الملتهب الذي لم يدع له قراراً" فسلّم عليّ وطلب منّي أن اُعيد عليه سورة الذاريات فلمّا بلغت الآية آنفة الذكر صرخ: وقال وجدنا وعد ربّنا حقّاً .. ثمّ أضاف هل هناك آية بعدها؟! فقرأت فورب السماء والأرض أنّه لحقّ: فصرخ ثانية وقال ياسبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتّى حلف ليصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين(6). 2 - أين الجنّة؟! كما ذكرنا في الآيات آنفة الذكر فإنّ بعض المفسّرين يرى أنّ جملة (وما توعدون) معناها الجنّة. وقالوا: يستفاد من هذه الآية أنّ الجنّة في السماء، إلاّ أنّ هذا الكلام لا ينسجم مع الآية التي تتحدّث عن الجنّة فتقول: (عرضها السماوات والأرض).(7) وكما قلنا - إنّ هذا التّفسير لجملة (وما توعدون) لا دليل عليه، بل يمكن أن يكون إشارة إلى وعد الله برزقه أو عذاب السماء. وإذا كان في الآية (15) من سورة النجم قد ورد أنّ جنّة المأوى في السماء عند سدرة المنتهى فليس ذلك دليلا على هذا المعنى، لأنّ "جنّة المأوى" قسم من بساتين الجنّة لا جميع الجنّة .. (فلاحظوا بدقّة). 3 - الإستفادة من آيات الله تحتاج إلى قابلية! حين تتحدّث آيات القرآن عن أسرار الخلق ودلائل الله في عالم الوجود تقول تارةً أنّ في ذلك (لآيات لقوم يسمعون) يونس الآية 67. وتارةً تقول: (لقوم يتفكّرون) الرعد الآية 3. واُخرى تقول: (لقوم يعقلون) الرعد الآية 4. أو تقول: (لقوم يؤمنون) النحل الآية 79. وفي مكان آخر تقول: (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى) سورة طه الآية 54. وتارةً تقول: (إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين) الحجر الآية 75. وأخيراً تقول: (لآيات للعالمين) الروم الآية 22. والآيات محلّ البحث تقول: (أفلا تبصرون)؟! أي إنّ آيات الله في الأرض وفي أنفسكم واضحة جليّة لاُولئك الذين لهم بصر ثاقب. وهذه التعبيرات تدلّ دلالة واضحة على أنّ الإستفادة من الآيات التي لا تحصى - الدالّة على وجود ذاته المقدّسة في الأرض تحتاج إلى إستعداد كاف، عين باصرة، اُذن سميعة، فكر يقظ، قلب ذكي وروح مهيّأة لقبول الحقائق متعطّشة لها .. وإلاّ فمن الممكن أن يعيش الإنسان سنين بين هذه الآيات إلاّ أنّ مثله كمثل الحيوانات التي همّها علفها. 4 - الرزق حقّ من جملة الاُمور التي يحكمها نظام دقيق هي "مسألة الرزق" التي اُشير إليها في الآيات محلّ البحث إشارات واضحة. صحيح أنّ الإستفادة من مواهب الحياة مشروطة بالجدّ والسعي والمثابرة وأنّ الكسل والخنوع مدعاة للتأخّر والحرمان من الحياة .. إلاّ أنّه من الخطأ البيّن أن نتصوّر أنّ رزق الإنسان يزداد بالحرص والولع والأعمال الكثيرة وأنّ رزقه يقلّ بالتعفّف والتجلّد وما إلى ذلك. ونلاحظ في الأحاديث الإسلامية تعابير طريفة في هذا المجال: ففي حديث عن النّبي (ص) أنّه قال: "إنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كره كاره"(8). وفي حديث آخر عن الصادق (ع) جواباً على بعض أصحابه وقد طلب منه أن يعظه وينصحه فقال (ع) "... وإن كان الرزق مقسوماً فالحرص لماذا"(9)؟! والهدف من بيان هذه الأحاديث ليس هو الوقوف بوجه الجدّ والسعي بل هو تنبيه الحريصين أن يلتفتوا إلى أنّ رزقهم مقدّر ليرتدعوا عن حرصهم!. وهنا لطيفة جديرة بالإلتفات وهي أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت اُموراً كثيرة على أنّها مدعاة للرزق أو مانعة له، وكلّ منها مهمّ في نفسه! نقرأ عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "والذي بعث جدّي بالحقّ نبيّاً انّ الله تبارك وتعالى يرزق العبد على قدر المروءة وأنّ المعونة تنزل على قدر شدّة البلاء"(10). وعنه (ع) أنّه قال: "كفّ الأذى وقلّة الصخب يزيدان في الرزق"(11). كما نقل عن نبي الإسلام (ص) أنّه قال: "التوحيد نصف الدين وإستنزل الرّزق بالصدقة"(12). وهناك اُمور اُخر ذكرت على أنّها مدعاة لزيادة للرزق كتنظيف نواحي البيت وغسل الأواني وتنظيفها. ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ﴾ أي ما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد ﴿لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ مثل نطقكم عندكم في حقية صدوره عنكم.