لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين). فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والإختصار تكشف ستاراً عن الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم. توضيح ذلك: لا شكّ أنّ كلّ فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن، وحيث أنّ الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة، بل لا ينبغي قياسه بأي أحد، فينقدح هذا السؤال وهو لِمَ خلق الله الإنسان؟! هل كان يشعر بنقص فإرتفع بخلق الإنسان؟! هل كان محتاجاً إلى شيء فإرتفع الإحتياج بخلقنا؟ ولكنّنا نعلم أنّ وجوده كامل من كلّ الجهات (ولا محدود في اللاّ محدود) وهو غني بالذات! إذاً، فطبقاً للمقدّمة الاُولى يجب القبول على أنّه كان له هدف، وطبقاً للمقدّمة الثانية - ينبغي القبول أنّ هدفه من خلق الإنسان ليس شيئاً يعود إلى ذاته المقدّسة. فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته، هذا الهدف يعود للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم .. هذا من جانب! ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان والهدف منه! فنقرأ في إحدى آياته: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا)،(1) وهنا يبيّن مسألة الإمتحان للإنسان وحسن العمل على أنّه هدف (من أهداف خلق الإنسان). وجاء في آية اُخرى (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً)!.(2) وهنا يبيّن القرآن أنّ علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات والأرض (وما بينهما). ونقرأ في آية اُخرى (ولو شاء ربّك لجعل الناس اُمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم).(3) وطبقاً لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله. والآيات محلّ البحث تستند إلى مسألة العبوديّة فحسب، وتعبّر عنها بصراحة بأنّها الهدف النهائي من خلق الجنّ والإنس! وبقليل من التأمّل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضادّ ولا إختلاف بين هذه الآيات، ففي الحقيقة بعضها هدف مقدّمي، وبعضها هدف متوسّط، وبعضها هدف نهائي، وبعضها نتيجة!. فالهدف الأصلي هو "العبودية" وهو ما اُشير في هذه الآيات محلّ البحث، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله. وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله، لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟! فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك (اليومية) وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم، أو هو حقيقة وراء هذه الاُمور وإن كادت العبادة الرسميّة كلّها أيضاً واجدة للأهميّة!؟ وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة "العبد" والعبودية وتحليلهما! "العبد": لغةً هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه!.. وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيّده وإبتغائه، فلا يملك في قباله شيئاً وليس له أن يقصّر في طاعته. وبتعبير آخر: إنّ العبودية - كما تبيّن معناها كتب اللغة - هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه! فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوجُ بلوغ الإنسان وإقترابه من الله! والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدّسة! والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والإمتثال للأوامر الإلهية في جميع المجالات!. وأخيراً فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق، ولا يسير إلاّ في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتّى (نفسه وشخصه). وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الإمتحان والإختبار لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كلّ ذلك فيض رحمته للإنسان. بحوث 1 - الله غني على الإطلاق إنّ جملة: (ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون) هي في الحقيقة إشارة إلى إستغناء الله عن كلّ أحد وعن كلّ شيء، وإذا ما دعا العباد إلى عبادته فليس ذلك ليستفيد منهم، بل يريد أن يجود عليهم، وهذا على العكس من العبودية بين الناس، لأنّهم يطلبون الرقّ والعبيد ليحصلوا بهم الرزق أو المعاش، أو أن يخدموهم في البيت، فيقدّموا لهم الطعام والشراب، وفي كلتا الحالين فإنّما يعود نفعهم على مالكيهم، وهذا الأمر ناشىء عن إحتياج الإنسان، إلاّ أنّ جميع هذه المسائل لا معنى لها في شأن الله، إذ ليس غنيّاً عن عباده فحسب، بل هو يضمن لعباده الرزق بلطفه وكرمه "ورزق الجميع على الله". 2 - الله ذو القوّة المتين "المتين" كلمة مشتقّة من متن، وهو في الأصل ما يكتنف العمود الفقري من لحم وعصب التي تشدّ الظهر وتجعله مهيّأً لتحمّل الأعباء، ولذلك فقد استعمل "المتن" بمعنى القوّة الكاملة والطاقة والقدرة، فبناءً على ذلك فإنّ ذكر "المتين" بعد ذكر كلمة "ذو القوّة" إنّما هو للتأكيد، لأنّ "ذو القوّة" إشارة إلى أصل قدرة الله! "والمتين" إشارة إلى كمال القدرة، وحين تقترن هذه الكلمة بـ "الرزّاق" وهو صيغة مبالغة أيضاً تدلّ على هذه الحقيقة، وهي أنّ الله له منتهى القدرة والتسلّط في إيلاء الرزق وإعطائه لمن يشاء، وهو يوصل الرزق إلى أيّة جهة كانت وأي مكان كان .. في أعماق البحار، وفي قمم الجبال، وفي سفوح التلال وعلى ضفاف الأنهار، وفي الوديان والصحاري والبراري .. وجميع ما في الوجود ومن في الوجود مجتمعون على مائدته الكريمة، إذاً فخلق الله للإنسان وسائر الموجودات لم يكن لحاجته إليهم، بل ليفيض عليهم من لطفه العميم. 3 - لِمَ قُدّم ذكر الجنّ مع أنّه يُستفاد من آيات القرآن بشكل واضح أنّ الإنس أفضل من الجنّ، إلاّ أنّه قدّم ذكر الجنّ على الإنس في الآية الآنفة، ولعلّ الظاهر منه أنّ الجنّ خلقوا قبل أن يُخلق آدم كما نقرأ ذلك في الآية (27) من سورة الحجر إذ تقول: (والجانّ خلقناه من قبلُ(1) من نار السموم). 4 - الحكمة من الخلق في نظر الفلسفة ذكرنا آنفاً أنّه قلّ أن نجد من لا يسأل نفسه أو غيره عن الهدف من خلق الإنسان! فدائماً تولّد جماعة وتمضي جماعة اُخرى وتنطفىء إلى الأبد، فما المراد من هذا المجيء والذهاب؟! والحقّ أنّنا - كاُناس لو لم نكن نعيش على وجه هذه الكرة الأرضية فماذا سيحدث؟ وهل يجب علينا أن نعرف لِمَ نأتي ولِمَ نمضي؟ ولو أردنا أن نعرف السرّ فهل نستطيع ذلك؟! وهكذا تترى الأسئلة الاُخر على فكر الإنسان وتحيط به ... وعندما يطرح هذا السؤال من قبل الماديين فالظاهر أنّهم لا جواب لهم عليه، لأنّ المادّة أو الطبيعة ليس لها عقل ولا شعور حتّى يكون لها هدف لذلك، فقد أراحوا أنفسهم من هذا السؤال وهم يعتقدون بعبثيّة الخلق وأنّه لا هدف من ورائه! وكم هو مثير ومقلق أن يتّخذ الإنسان لجزئيات حياته سواءً أكانت للعمل أم الكسب أو الصحّة أو الرياضة أهدافاً منظّمة وأن يعتقد أنّ الحياة بمجموعها ضرب من العبث واللغو!؟ لذلك فلا مجال للعجب أنّ جماعة من الماديين حينما يفكّرون في هذه المسائل يتركون هذه الحياة التي لا هدف ورائها ويقدّمون على الإنتحار! إلاّ أنّ هذا السؤال حين يلقيه معتقد بالله، فإنّه لا يواجه طريقاً مسدوداً، لأنّه يعلم أنّ خالق هذا العالم حكيم وقد خلق هذا العالم عن حكمة حتماً وإن جهلناها، وهذا من جانب، ومن جانب آخر حين يرى أعضاءه عضواً عضواً يجد لكلّ فلسفة وحكمة وهدفاً، لا الأعضاء المهمّة ظاهراً كالقلب واللسان والعروق والأعصاب بل حتّى الأظفار وخطوط اليد والبنان وتقوّس القدم أو هيأة اليد وفسلجتها كلّ له فلسفة يعرفها العلم الحديث المعاصر! فإلى أيّ درجة من السذاجة أن يُرى لجميع هذه الأعضاء أهدافاً إلاّ أنّ المجموع يكون بلا هدف!! وأي قضاء متهافت أن نجد لكلّ بناء في المدينة فلسفة خاصّة - إلاّ أنّنا نقضي على المدينة بأنّها لا فلسفة فيها ولا هدف من ورائها!! ترى هل من الممكن أن يبني مهندس ما بناءً عظيماً فيه الغرف والأبواب والنوافذ والأحواض والحدائق و "الديكورات" وكلّ من هذه الاُمور هو لأمر خاصّ ولهدف معيّن، إلاّ أنّ مجموع البناء لا هدف من ورائه؟! هذه الاُمور هي التي تمنح المؤمن بالله والمعتقد به الإطمئنان بأنّ خلقه له هدف عظيم، وعليه أن يسعى ويجدّ حتّى يكتشفه بقوّة العقل والعلم. والعجيب أنّ أصحاب نظرية العبث (في الخلق) حين يردون أيّة زاوية من زوايا العلوم الطبيعية - يبحثون عن الهدف لتفسير الظواهر المختلفة ولا يهدأون حتّى يجدوا الهدف! حتّى أنّهم لا يرتضون أن تبقى غدّة صغيرة في بدن الإنسان دون عمل وغاية، ولربّما يقضون سنوات بالبحث عن الحكمة من وجود مثل هذه الغدّة .. إلاّ أنّهم حين يبلغون أصل خلق الإنسان يقولون بصراحة: لا هدف من ورائه. فما أعجب هذا التناقض!! وعلى كلّ حال فالإيمان بحكمة الله تعالى من جانب، وملاحظة فلسفة أجزاء (وجود) الإنسان من جانب آخر، كلّ ذلك يدعونا إلى الإيمان أنّ وراء خلق الإنسان هدفاً كبيراً. والآن ينبغي علينا أن نبحث عن هذا الهدف وأن نحدّده ما بوسعنا - وأن نسير في منهاجه اللاحب. إنّ ملاحظة عدّة مقدّمات - يمكن لها - أن تسلّط الأضواء على هدفنا للكشف عن هذا المجهول المظلم. 1 - نحن دائماً نقصد في أعمالنا إلى هدف ما، وعادةً يكون هذا الهدف إشباع حاجة ورفعها وإتمام النواقص. وحتّى الخدمة للآخرين أو إنقاذ مبتلى من بلائه .. أو قمنا بعمل إنساني وآثرنا سوانا على أنفسنا فذلك أيضاً نوع من الحاجات المقدّسة، وبرفعها نزداد معنوية وكمالا! ولمّا كنّا نقيس أحياناً صفات الله مع أنفسنا فقد يخطر مثل هذا التصوّر وهو ما هي الحاجة عند الله حتّى ترتفع بخلقنا؟ أو إذا كانت الآيات الآنفة تقول (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدوني) فنقول ما هي حاجته إلى العبادة؟! مع أنّ هذه التصوّرات ناشئة من المقايسة بين صفات الخالق والمخلوق والواجب والممكن؟! وحيث أنّ وجودنا محدود فإنّنا نسعى وراء إشباع حاجاتنا، وأعمالنا جميعها تقع في هذا المسير .. إلاّ أنّ هذا غير وارد في وجود مطلق، فينبغي البحث عن هدف أفعاله في غير وجوده، فهو عين فيّاضة ومبدأ النعمة الذي يكتنف الموجودات في كنف حمايته ورعايته وإنمائه والسلوك بها إلى الكمال، وهذا هو الهدف الواقعي لعبوديتنا.. وهذه فلسفة عباداتنا وإبتهالاتنا، فهي جميعاً دروس تربوية لتكاملنا. وأساساً فإنّ أصل الخلق هو خطوة تكاملية عظيمة، أي مجيء الشيء من العدم إلى الوجود، ومن الصفر إلى مرحلة العدد. وبعد هذه الخطوة التكاملية العظيمة تبدأ مراحل تكاملية اُخرى .. فجميع المناهج الدينية والإلهيّة تسلك بالإنسان في هذا المسير! 2 - وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان الهدف من الخلق هو الجود - على العباد - من المعبود لا النفع للخالق، وهذا الجود يتمثّل في تكامل الناس، فلِمَ لم يخلق الله (الجواد الكريم) العباد كاملين من البداية - ليكونوا في جواره وقربه وأن يتمتّعوا ببركات قربه وجوار ذاته المقدّسة! والجواب على هذا السؤال واضح .. فتكامل الإنسان ليس أمراً يمكن خلقه بالإجبار، بل هو طريق طويل مديد، وعلى الناس أن يسيروه ويجوبوه ويقطّعوه بإرادتهم وتصميمهم وأفعالهم الإختيارية. فمثلا لو أخذ مال باهظ قسراً من أحد لبناء مستشفى، فهل لهذا العمل من أثر تكاملي روحي وأخلاقي في نفسه؟! قطعاً لا! لكن لو أعطى بمحض إرادته ورغبته وميله النفسي ولو درهماً واحداً لهذا الهدف المقدّس فإنّه يخطو في طريق التكامل الأخلاقي والروحي بتلك النسبة التي ساهم فيها. ويستفاد من هذا الكلام أنّ على الله أن يبيّن لنا هذا المسير بأوامره وتكاليفه ومناهجه التربوية بواسطة أنبيائه والعقل ليتمّ الإبلاغ بذلك، فنعرف هذا المسير التكاملي ونطويه بإختيارنا وإرادتنا. 3 - وينقدح هنا سؤال - آخر أيضاً - وهو أنّ كلّ هذا حسن .. فالهدف من خلقنا هو التكامل الإنساني، أو بتعبير آخر القرب من الله وحركة الوجود الناقص نحو الوجود الكامل الذي لا نهاية له، إلاّ أنّه ما الهدف من هذا التكامل؟! والجواب يتّضح بهذه الجملة أيضاً وهو أنّ التكامل هو الهدف النهائي أو بتعبير آخر "غاية الغايات". وتوضيح ذلك: لو سألنا طالب المدرسة علام تدرس أو لم تدرس؟! فيجيب حتّى أدخل الجامعة! ولو سألناه ثانية ما تستفيد من الجامعة؟ فيقول مثلا سأكون طبيباً أو مهندساً جديراً! فتقول له ما تصنع بشهادة "الدكتوراه" أو الهندسة؟ فيقول: لأبرز نشاطاتي وفعاليّاتي الإيجابية المثبتة ولكي يكون ربح وفير! فنقول له ما تصنع بالربح الوفير؟ فيقول: لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرماً ومرفّهاً. وأخيراً نوجّه إليه هذا السؤال .. لِمَ تريد الحياة المنعمة؟ وهنا نراه يجيب بلحن آخر فيقول: حَسَنٌ(4) لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرماً ومرفّهاً علي: أي إنّه يكرّر جواب السؤال السابق! وهذا دليل على أنّ ذاك هو الجواب النهائي، وكما يصطلح عليه بأنّه "غاية الغايات" لعمله، وليس وراءه جواب آخر! وإنّه هو الهدف النهائي .. كلّ هذا هو في المسائل الماديّة وهكذا الحال في الحياة المعنوية، فحين يسأل علام مجيىء الأنبياء ونزول الكتب من السماء، ولِمَ هذه التكاليف الشرعية والمناهج التربوية؟ فنجيب: للتكامل الإنساني والقرب من الله!. وإذا سألوا: ما المراد من التكامل الإنساني والقرب من الله؟ نقول: هو القرب من الله، أيّ أنّ هذا هو الهدف النهائي، وبتعبير آخر أنّنا نريد كلّ شيء للتكامل والقرب من الله .. وأمّا القرب من الله فلنفسه (أي للقرب من الله). 4 - وينقدح مرّة اُخرى هذا السؤال أنّه ورد في حديث قدسي قوله تعالى: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اُعرف وخلقت الخلق لكي اُعرف". فما علاقة هذا الحديث بما ذكرتم آنفاً؟! فنجيب على ذلك: إنّه بغضّ النظر عن أنّ هذا الحديث من باب خبر الواحد، ولا يُعتد بخبر الواحد في المسائل الإعتقادية، فإنّ مفهوم هذا الحديث أنّ معرفة الله هي الوسيلة لتكامل الخلق أي أنّ الله أحبّ أن يستوعب فيض رحمته كلّ مكان، فلذلك خلق الخلق وعلّمهم طريقه وسبيل معرفته ليسيروا نحو التكامل والكمال! لأنّ معرفة الله رمز تكاملهم. أجل، إنّ على العباد أن يعرفوا أنّ ذات الله هي منبع جميع الكمالات، ويسترفدوا لأنفسهم من كمالاته ويستلهموا منه في وجودهم ليشرق في وجودهم ومض من صفات كماله وجلاله، فالتكامل والقرب من الله لا يتحقّقان إلاّ عن طريق التخلّق بأخلاقه، وهذا التخلّق فرع معرفته "فلاحظوا بدقّة". 5 - وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً فإنّنا نقترب من النتائج فنقول: إنّ عبادة الله والعبودية له يعينان السير في ما يرتضيه وأن نستودعه أرواحنا ونعشقه بقلوبنا وأن نتخلّق بأخلاقه!. وإذا كانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت "العبادة" على أنّها الهدف النهائي فمفهومها هو هذا، أي أنّه بتعبير آخر هو "التكامل الإنساني"!. أجل إنّ "الإنسان الكامل" هو العبد المخلص لله. 5 - الرّوايات الإسلامية وفلسفة خلق الإنسان ذكرنا آنفاً مسألة الهدف من خلق الإنسان، وعالجنا هذه المسألة عن طريقين: أحدهما عن طريق تفسير آيات القرآن، والآخر عن طريق الفلسفة، وقد أوصلنا كلّ منهما إلى نقطة واحدة. والآن علينا أن نتابع هذه المسألة في المسير الثالث، أي عن طريق الرّوايات الإسلامية لنعرف نتيجتها من هذه الرّوايات. والتدقيق أو التأمّل في الرّوايات التالية التي هي بعض ما ورد في هذا الباب يمنحنا العمق في النظر! ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع) أنّه لمّا سئل ما معنى قول النّبي (ص): "اعملوا فكلّ ميسّر لما خُلق له. قال (ع): إنّ الله عزّوجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزّوجلّ: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون) فيسّر كلا لما خلق له، فويل لمن إستحبّ العمى على الهدى"(5). وهذا الحديث إشارة ذات معنى غزير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله لمّا خلق الناس لهدف تكاملي هيّأ له وسائله التكوينية والتشريعية وجعلها في إختياره. ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) أنّ الإمام الحسين خطب أصحابه فقال: "إنّ الله عزّوجلّ ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"(6). 6 - الإجابة على سؤال ويرد هنا سؤال آخر، وهو إذا كان الله قد خلق العباد ليعبدوه، فعلام يختار قسم منهم طريق الكفر؟ وهل يمكن أن تتخلّف إرادة الله عن هدفه؟! وفي الحقيقة إنّ الذين يوردون هذا الإشكال خلطوا بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعيّة. لأنّ الهدف من العبادة لم يكن إجبارياً، بل العبادة توأم الإرادة والإختيار. وبهذا يتجلّى الهدف بصورة تهيأة الأرضية أو المجال .. فمثلا لو قلت إنّي بنيت هذا المسجد ليصلّي الناس فيه، فمفهومه أنّني هيّأته لهذا العمل! لا أنّني اُجبر الناس على الصلاة فيه! وكذلك في الموارد الاُخر كبناء المدرسة للدرس، والمستشفى للتداوي، والمكتبة للمطالعة! وهكذا فإنّ الله هيّأ هذا الإنسان للطاعة والعبادة، ووفّر له كلّ وسائل المساعدة من قبيل والعقل والعواطف والقوى المختلفة في الداخل، وإرسال الأنبياء والكتب السماوية والمناهج التشريعية في الخارج الخ. ومن المسلّم به أنّ هذا المعنى في المؤمن والكافر واحد، إلاّ أنّ المؤمن أفاد من هذه الإمكانات، والكافر لم يُفِدْ! لذلك فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه حين سئل عن الآية (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون) .. قال (ع): "خلقهم للعبادة". قال الراوي: فسألته: خاصّةً أم عامّة؟! فقال (ع): "عامّة"(7). وفي حديث آخر عن الإمام نفسه (ع) أنّه لمّا سئل عن تفسير هذه الآية قال: "خلقهم ليأمرهم بالعبادة"(8). وهي إشارة إلى أنّ الهدف لم يكن الإجبار على العبادة بل الإعداد والتهيأة له، وهذا المعنى يصدق في حقّ عموم الناس(9). ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾ لخلقه الغني عنهم ﴿ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الشديد.