ثمّ يذكر القرآن الإتّهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضاً فيقول: (أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون).
فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر، إذ أنّ لأشعاره رونقها وجاذبيتها، فإذا حلّ به الموت وإنطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.
وكما يُفهم من كتب اللغة فإنّ "المنون" مشتقّ من المنّ، وهو على معنيين: النقصان و القطع، وهذان المعنيان أيضاً بينهما مفهوم جامع!
ثمّ استعملت كلمة "المنون" في الموت أيضاً، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد.
وقد يطلق "المنون" على مرور الزمان، وذلك لأنّه يوجب الموت ويقطع العلائق وينقص النفر، كما يطلق "المنون" على الليل والنهار أحياناً، ولعلّ ذلك للمناسبة ذاتها(3).
وأمّا كلمة (ريب) فأصلها الشكّ والتردّد والوهم في الشيء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!
وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت، فيقال "ريب المنون" لأنّ وقت حصوله غير معلوم لا أصل تحقّقه(4)!
إلاّ أنّ جماعة من المفسّرين قالوا إنّ المراد من "ريب المنون" في الآية محلّ البحث هو حوادث الدهر، حتّى انّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال حيث ما وردت كلمة "ريب" في القرآن فهي بمعنى الشكّ والتردّد، إلاّ في هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث(5).
وقال جماعة منهم أنّ المراد منه هو حالة الإضطراب، فيكون معنى "ريب المنون" على هذا القول هو حالة الإضطراب التي تنتاب أغلب الأفراد قبل الموت!
ويمكن أن يعود هذا التّفسير (الأخير) على المعنى السابق، لأنّ حالة الشكّ والتردّد أساس الإضطراب، وكذلك الحوادث التي لم ينبّأ بها من قبل، فهي تقترن بنوع من الإضطراب والشكّ والتردّد، وهكذا فإنّ جميع هذه المفاهيم تنتهي إلى أصل "الشكّ والتردّد".
وبتعبير آخر، فإنّ للريب ثلاثة معان مذكورة: الشكّ، والإضطراب، والحوادث، وهذه جميعاً من باب اللازم والملزوم!.
(أم) بل (يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) ما يقلق من حوادث الدهر فيهلك كما هلك الشعراء.