ثمّ إقترب وإقترب حتّى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل (ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى) ثمّ أنّ الله تعالى أنزل عليه الوحي (فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى).
وهناك في تفسير هذه الآيات نظريتان إحداهما مشهورة، والاُخرى مغمورة .. ولكن يلزمنا أن نتناول بعض مفردات الآيات بالإيضاح ثمّ بيان التّفسيرين المختلفين.
"المِرّة" .. كما يقول أرباب اللغة وأهلها معناها الفَتل، وحيث أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوّة .. فإنّ هذه الكلمة إستعملت في الاُمور المادية أو المعنوية المحكمة والقويّة.
وقال بعض المفسّرين: المِرّة مأخوذة من المرور، فمعناها العبور، لكن هذا الرأي لا ينسجم مع ما كتبه أهل اللغة في هذا الصدد.
"تدَلى" فعل مأخوذ من التدلّي على وزن تجلّي، ومعناه كما يقول الراغب في مفرداته الإقتراب، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة "دنا" الواردة قبله، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.
على أنّ بعض المفسّرين فَرّق بين الفعلين في المعنى فقال: "التدلّي" معناه التعلّق بالشيء كتعلّق الثمر بالشجر ولذلك يقال في الأثمار المتدلّية من أشجارها "دوالي"(1).
"قاب" بمعنى مقدار - و "قوس" (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى "قاب قوسين" .. قدر طول قوسين.
وفسّر بعضهم "القوس" بأنّه المقياس فهو مشتقّ من القياس، وحيث انّ مقياس العرب الذراع وهو ما بين الزند والمرفق فيكون معنى "قاب قوسين" على هذا الرأي: مقدار ذراعين.
وورد في بعض كتب اللغة لكلمة "قاب" معنى آخر، هو الفاصلة بين محل اليد من القوس إلى نقطة إنتهاء القوس.
فبناءً على هذا فإنّ "قاب قوسين" معناه مجموع إنحناء القوس (فلاحظوا بدقّة)(2).
- بعد هذا كلّه لنرجع إلى التّفسيرين - فالنظرية المشهورة الاُولى تقول أنّ معلّم النّبي أمين الوحي جبرئيل الذي له قدرة خارقة.
وكان يأتي النّبي بصورة رجل حسن الطلعة ويبلّغه رسالة الله، وظهر للنّبي بصورته الحقيقيّة مرّتين طوال فترة رسالة النّبي وعمره الشريف.
المرّة الاُولى هي ما تشير إليه الآيات محلّ البحث، إذ ظهر في الاُفق الأعلى فطبق المشرق والمغرب جميعهما، وكان عظيماً حتّى أنّه هال النبي، ثمّ دنا فاقترب من النّبي فلم يكن بينهما مسافة بعيدة إلاّ بمقدار ذراعين، والتعبير بـ "قاب قوسين" كناية عن منتهى الإقتراب.
والمرّة الثانية - ظهر له - في معراجه (ص) وسنبيّن ذلك في الآيات المقبلة التي تتحدّث عن هذا الأمر بإذن الله.
ويرى بعض المفسّرين ممّن إختار هذه النظرية بأنّ اللقاء الأوّل الذي ظهر له جبرئيل فيها بصورته الحقيقيّة كان في غار حراء الواقع في جبل النور(3).
﴿فَكَانَ﴾ منه ﴿قَابَ﴾ مقدار ﴿قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ في تقديركم.