ثمّ يتناول القرآن واحداً من الأدلّة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّباً: (وما لهم به من علم إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً).
فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل .. فالتعويل عن الظنّ والتصوّر إنّما هو من عمل الشيطان أو من يتّصف بالشيطانيّة .. وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الإنحراف وعدم العقل!
وواضح أنّ كلمة "الظنّ" لها معنيان مختلفان، فتارةً تطلق هذه الكلمة على الأوهام التي لا أساس لها، وطبقاً لتعبير الآيات آنفة الذكر تعني الخرافات والأوهام وما تهوى الأنفس .. والمراد من هذه الكلمة في الآية هو هذا المعنى ذاته.
المعنى الآخر، الظنّ المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويكون مطابقاً للواقع غالباً، وعليه يكون مبنى العمل في اليوم - مرةً أو أكثر - كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك، فلو أعرضنا عن مثل هذه الاُمور وعوّلنا على اليقين القطعي لأضطربت الحياة واختلّ نظامها.
ولا شكّ أنّ هذا القسم من الظنّ غير داخل في هذه الآيات، وهناك شواهد كثيرة في الآيات ذاتها على ذلك .. وفي الحقيقة أنّ القسم الثاني نوع من العلم العرفي لا الظنّ، فبناءً على هذا لا يصحّ الإستدلال بالآية (إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً) وأمثالها على نفي حجيّة الظنّ بشكل مطلق.
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة .. وهي أنّ الظنّ في إصطلاح الفقهاء والاُصوليين معناه "الإعتقاد الراجح"، إلاّ أنّه في اللغة أوسع
مفهوماً، فيشمل حتّى الوهم والإحتمالات الضعيفة، ومن هذا القبيل ظنّ عبدة الأوثان - إذ كان خرافة تظهر في أذهانهم بشكل إحتمال ضعيف.
ثمّ ينهض هوى النفس فيزيّن ذلك الإحتمال، ويهمل الإحتمال الآخر الذي هو أقوى من هذا الإحتمال، ويصير الإحتمال الضعيف إعتقاداً راسخاً مع أنّه لا أساس له أبداً.
﴿وَمَا لَهُم بِهِ﴾ بهذا القول ﴿مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ فإن الحق إنما يحصل بالعلم دون الظن والتخمين.