لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم). و "الكبائر" جمع كبيرة، و "الإثم" في الأصل هو العمل الذي يُبعد الإنسان عن الخير والثواب، لذلك يطلق على الذنب عادةً، و "اللمم" على وزن القلم - كما يقول الراغب في المفردات معناه الإقتراب من الذنب، وقد يعبّر عن الذنوب الصغيرة باللمم أيضاً، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة من الإلمام ومعناها الإقتراب من شيء دون أدائه، وقد يطلق "اللمم" على الأشياء القليلة أيضاً "وإطلاقه على الذنوب الصغيرة من هذا الباب". وقد فسّر المفسّرون "اللمم" في هذه الحدود، فقال بعضهم: هو الذنوب الصغيرة، وقال آخرون هو نيّة المعصية دون أدائها، وفسّره غيرهم بأنّ اللمم معاص لا أهميّة لها. وربّما قالوا بأنّ اللمم يشمل الذنوب الصغيرة والكبيرة على أن لا تكون معتادة والتي تقع أحياناً فيتذكّرها الإنسان فيتوب منها. وهناك تفاسير متعدّدة لهذه الكلمة في الرّوايات الإسلامية، فقد جاء عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: اللمم الرجل يلمّ به الذنب فيستغفر الله منه(2) وورد عنه أيضاً أنّه قال: هو الذنب يلمّ به الرجل فيمكث ما شاء الله ثمّ يلمّ به بعد(3). كما وردت روايات اُخرى في هذا المعنى أيضاً. والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضاً .. إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب، ثمّ يلتفت إليها فيتوب منها، لأنّ إستثناء اللمم من الكبائر (مع الإلتفات إلى أنّ ظاهر الإستثناء كونه إستثناءً متّصلا) يشهد على هذا المعنى. أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول: (إنّ ربّك واسع المغفرة)!. وهذا يدلّ على أنّ ذنباً صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران الله، لا أنّه قصد الإقتراب منه ونواه دون أن يرتكبه. وعلى كلٍّ فالمراد من الآية أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا، إلاّ أنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة - وإنّما تقع الذنوب عَرضَاً، ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلاّ ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من الله سبحانه كما نقرأ في الآية (201) من سورة الأعراف إذ تشير إلى هذا المعنى: (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون). ونظير هذا المعنى في الآية (135) من سورة آل عمران إذ تقول في وصف المحسنين والمتّقين: (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم)! فكلّ هذا شاهد على ما جاء من تفسير "اللّمم". ونختتم بحثنا هنا بحديث للإمام الصادق (ع) إذ أجاب على سؤال حول تفسير الآية - محلّ البحث - فقال: "اللمام العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبيعته"(4). ويتحدّث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكّداً عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول: (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون اُمّهاتكم)(5). وقوله "أنشأكم من الأرض" إمّا هو بإعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدم (ع)الذي خلقه من تراب، أو بإعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كلّه من الأرض، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة، ثمّ بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضاً. وعلى كلّ حال، فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ الله مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم إنعقدت نطفتكم في أرحام الاُمّهات في أسجاف من الظلمات فكيف - مع هذه الحال - لا يعلم أعمالكم؟! وهذا التعبير مقدّمة لما يليه من قوله تعالى: (فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى)! فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة، فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم، وهو أعرف بكم منكم، ويعلم صفاتكم الداخلية والخارجية. قال بعض المفسّرين أنّ الآيتين آنفتي الذكر نزلتا في جماعة كانوا يمدحون أنفسهم بعد أداء الصوم أو الصلاة فيقولون: إنّنا صلّينا وصمنا وقمنا بكذا وكذا .. فنزلت الآيتان ونهتهم عن تزكية الأنفس(6). بحوث 1 - علم الله المطلق مرّة اُخرى يشار في هاتين الآيتين إلى علم الله المطلق وسعته، إلاّ أنّ التعبير فيهما تعبير جديد، لأنّه يستند إلى لطيفتين(7) وهما من أشدّ حالات الإنسان خفاءً والتواءً .. حالة خلق الإنسان من التراب إذ ما تزال عقول المفكّرين حائرةً فيها، فكيف يوجد موجود حي من موجود لا روح فيه (ميّت)؟ وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الأمر حدث في السابق سواءً في الإنسان أو الحيوانات الاُخر، ولكن في أيّة ظروف؟! فالمسألة في غاية الخفاء والإلتواء بحيث ما تزال أسرارها مطوية ومكتومة عن علم الإنسان. والاُخرى مسألة التحوّلات المفعمة بالأسرار في وجود الإنسان في مرحلة الجنين، فهي أيضاً من الأسرار الغامضة في كيفية خلق الإنسان وإن كان شبح منها قد إنكشف لعلم البشر، إلاّ أنّ الأسئلة حول أسرار الجنين التي ما زالت دون جواب كثيرة. فالمطّلع على هاتين الحالتين من جميع أسرار وجود الإنسان وتحوّلاته وتغييراته وهاديه ومربّيه، كيف يكون غير عالم بأعماله وأفعاله! ولا يجازي كلاًّ بحسب ما يقتضيه عمله! إذاً، فهذا العلم المطلق أساس عدالته المطلقة! 2 - ما هي كبائر الإثم هناك كلام طويل بين المفسّرين من جهة، والفقهاء والمحدّثين من جهة اُخرى في شأن الذنوب الكبيرة المشار إليها في بعض الآيات من القرآن(8). فبعضهم يعتقد أنّ جميع الذنوب تعدّ من الكبائر، لأنّ كلّ ذنب - أمام الخالق الكبير يعدّ ذنباً كبيراً. في حين أنّ بعضهم ينظر إلى الذنوب نظرةً نسبيّة فيرى كلّ ذنب بالنسبة إلى ما هو أهمّ منه صغيراً وبالعكس. وقال آخرون إنّ الكبائر ما جاء الوعيد من قبل الله في القرآن بإرتكابها! وربّما قيل إنّ الكبائر ما يجري عليها "الحدّ" الشرعي. إلاّ أنّ الأفضل أنّ يقال بأنّه مع ملاحظة أنّ التعبير بالذنوب الكبيرة دليل على عظمها، فكلّ ذنب فيه أحد الشروط التالية يعدّ كبيراً: أ - الذنوب التي ورد الوعيد من قبل الله في شأنها والعذاب لمرتكبها. ب - الذنوب المذكورة في نظر أهل الشرع ولسان الرّوايات بأنّها عظيمة. ج - الذنوب التي عدّتها المصادر الشرعيّة أكبر من الذنوب التي هي من الكبائر. د - وأخيراً الذنوب المصرّح بها في الرّوايات المعتبرة بأنّها من الكبائر!. وقد ورد ذكر الكبائر في الرّوايات الإسلامية مختلفاً عددها فيه، إذ جاء في بعضها أنّها سبع "قتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والعودة إلى دار الكفر بعد الهجرة، ورمي المحصنات بالزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف الجهاد"(9). وقد جاء في بعض الرّوايات ذكر هذا النصّ: "كلّما أوجب عليه الله النار" مكان عقوق الوالدين. وجاء في بعض الرّوايات أنّها "عشر"، وأوصلتها روايات اُخر إلى "تسع عشرة" كبيرةً! وربّما ترقّى هذا العدد إلى أكثر ممّا ذكر في بعض الرّوايات أيضاً(10). وهذا التفاوت في عدد الكبائر هو لأنّ الذنوب الكبيرة ليست بمرتبة واحدة، فبعضها أهمّ من بعض، وبتعبير آخر يعدّ أكبر الكبائر، فبناءً على هذا لا تضادّ بين الرّوايات في إختلاف العدد. 3 - تزكية النفس: "تزكية النفس" قبيح إلى درجة أنّها يضرب بها المثل! فيقال تزكية المرء نفسه قبيحة. وأساس هذا العمل القبيح وأصله عدم معرفة النفس، لأنّ الإنسان إذا عرف نفسه حقّاً تصاغر أمام عظمة الخالق ورأى أعماله لا شيء لما عليه من مسؤولية، ولما وهبه الله من النعم العظيمة، وإذاً لما خطا أيّة خطوة نحو تزكية النفس. والغرور والغفلة والإستعلاء والأفكار الجاهلية أيضاً بواعث اُخر على هذا العمل القبيح! وحيث أنّ تزكية النفس تكشف عن إعتقاد الإنسان بكماله فهي مدعاة إلى تخلّفه! لأنّ رمز التكامل الإعتراف بالتقصير وقبول وجود النواقص والضعف! ومن هنا نرى أولياء الله يعترفون بتقصيرهم أمام الله وما عليهم من وظائف من قِبَلِه! وينهون الناس عن تزكية النفس وتعظيم أعمالهم!. فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) في تفسير الآية الكريمة (فلا تزكّوا أنفسكم)أنّه قال: "لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته .. وصومه وزكاته ونسكه لأنّ الله عزّوجلّ أعلم بمن اتّقى"(11). ويقول الإمام أمير المؤمنين علي (ع) في إحدى رسائله إلى معاوية مشيراً إلى هذا المضمون في ما يقول: "ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السامعين" "يعني بذلك نفسه (ع)"(12). "وفي هذا الصدد أوردنا بحثاً مفصّلا في هذا التّفسير ذيل الآية 49 من سورة النساء فراجع إن شئت". ولا ننسى أن نقول إنّ الضرورات قد توجب على الإنسان أحياناً تزكية نفسه أمام الغير بكلّ ما لديه من إمتيازات حتّى لا تسحق أهدافه المقدّسة، وبين هذا النوع من التعريف بالنفس وتزكية النفس المذموم إختلافاً كبيراً. ومن أمثلة ذلك خطبة الإمام زين العابدين في مسجد بني اُميّة في الشام لما أراد أن يعرف نفسه وأهل بيته لأهل الشام ليحبط مؤامرة الاُمويين بكون الحسين والشهداء معه خوارج ويفضحهم!! وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه سئل الإمام الصادق عن "تزكية النفس" فقال نعم إذا اضطرّ إليه - أما سمعت قول يوسف أحياناً للضرورة - ثمّ استدلّ بموضعين من كلام الأنبياء أحدهما إقتراح يوسف على عزيز مصر أن يكون مسؤولا ومشرفاً على خزائن مصر وتعقيبه: (إنّي حفيظ عليم) .. وقول العبد الصالح: (أنا لكم ناصح أمين).(13) ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ ما تزايد قبحه من الكبائر ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ وهو الصغائر والاستثناء منقطع أي لكن اللمم يغفر لمجتنبي الكبائر ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ فيغفر ما دون الشرك لمن يشاء ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ بأحوالكم ﴿إِذْ أَنشَأَكُم﴾ حين ابتدأ خلقكم بخلق آدم ﴿من مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ جمع جنين ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ في الأرحام ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾ لا تمدحوها إعجابا ورياء ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ بمن أطاع وأخلص العمل.