لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتشير الآية اللاحقة إلى أهمّ النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول الباريء عزّوجلّ: (علّمه البيان). كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع، حيث تقال لكلّ شيء يوضّح ويبيّن شيئاً معيّناً، وبناءً على هذا فإنّها لا تشمل النطق والكلام فحسب، بل تجمع الكتابة والخطّ وأنواع الإستدلالات العقليّة والمنطقية التي تبيّن المسائل المختلفة والمعقّدة أيضاً رغم أنّ معالم هذه المجموعة هي التكلّم والنطق. ونظراً لتعوّدنا ممارسة الكلام، فقد نتصوّر أنّه أمر بسيط وسهل، والحقيقة أنّ التكلّم من أعقد وأظرف أعمال الإنسان، ويمكننا القول بعدم وجود عمل على شاكلته من ناحية التعقيد والظرافة. فمن جهة نجد أنّ الأجهزة المختّصة لإصدار الصوت تتساعد وتتعاون مع بعضها لإيجاد الأصوات المختلفة. فالرئة تجمع الهواء لتخرجه من الحنجرة تدريجيّاً، والأوتار الصوتية تهتزّ لتولّد أصواتاً مختلفة تماماً، بعضها تعبّر عن حالة الرضى، والاُخرى عن الغضب، والثالثة تعبّر عن النجدة والإستغاثة وطلب العون، والرابعة عن المحبّة أو العداوة وهكذا. ثمّ إنّ هذه الأصوات - بمساعدة اللسان والشفتين والأسنان والحلق - تصنع الحروف الأبجدية بسرعة وظرافة خاصّة، وبتعبير آخر: إنّ الصوت الممتدّ والمتساوي الذي يخرج من الحنجرة يقطّع إلى أشكال وقياسات مختلفة حيث تتشكّل منه الحروف. ومن جهة اُخرى فهناك مسألة اللغات، حيث إنّ الإنسان يبتدع لغات مختلفة حسب إحتياجاته الماديّة والمعنوية، وذلك إثر تطوّره وتقدّمه الفكري. والعجيب هنا عدم وجود أي محدودية في وضع اللغات، حيث نلاحظ تعدّد الألسن في عالمنا هذا بصورة يصعب إحصاؤها بصورة دقيقة، كما أنّنا نلحظ أيضاً نشوء لغات جديدة وألسن جديدة بصورة تدريجيّة مع مرور الزمن. ويعتقد البعض أنّ عدد اللغات الموجودة في عالمنا اليوم يصل إلى ثلاثة آلاف لغة، ويذهب آخرون إلى أكثر من ذلك(4). والظاهر أنّ ذلك يتعلّق باللغات والألسن الأصليّة، أمّا إذا أخذت اللهجات المحليّة بنظر الإعتبار فإنّها ستصبح أكثر من ذلك بكثير قطعاً، حيث لاحظ المتتبعون لاُمور اللهجات أنّ قريتين متجاورتين تتحدّثان بلسانين مختلفين أحياناً. ومن جهة ثالثة هناك مسألة ترتيب الجمل والإستدلال وبيان العواطف عن طريق العقل والفكر، لأنّها تمثّل روح البيان والنطق ... ولهذا الأمر فإنّ التكلّم أمر خاصّ بالإنسان فقط. صحيح أنّ الكثير من الحيونات تحدث أصواتاً مختلفة كي تعبّر عن إحتياجاتها، إلاّ أنّ عدد هذه الأصوات محدود جدّاً ومبهم وغير معلوم، في حين أنّ البيان وضع في إختيار الإنسان بصورة واسعة وغير محدودة، لأنّ الله تعالى قد أعطاه القدرة الفكرية اللازمة للتكلّم. وإذا تجاوزنا كلّ ذلك وأخذنا دور البيان في تكامل وتقدّم الحياة الإنسانية، فمن الواضح أنّ الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدّى إلى التقدّم والعلم والدين والأخلاق ... وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإنّ المجتمع الإنساني سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة، ولو أخذنا "البيان" بمعناه الواسع الذي يشمل الخطّ والكتابة والفنون المختلفة، فإنّه سيتّضح لدينا بصورة أكثر دوره الهامّ في الحياة الإنسانية. ومن هنا ندرك لماذا جاءت عبارة (تعليم البيان) بعد نعمة خلق الإنسان في سورة الرحمن التي هي مجموعة من هبات الله تعالى. ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ هو إفهام الغير ما في الضمير بالمنطق.