لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وإستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهيّة يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر، حيث يقول سبحانه: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام). "جوار": جمع جارية، وهي وصف للسفن، وحذفت للإختصار لأنّ التركيز الأكثر كان على سير وحركة السفن، لذا إعتمد هذا الوصف. كما تطلق جارية على (الأمة)، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز الأعمال والخدمات، وتطلق أيضاً على الفتيات الشابّات وذلك لجريان النشاط فيهنّ. "منشآت" جمع (منشأ) وهو إسم مفعول من (إنشاء) بمعنى إيجاد، والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن "منشآت" والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله، وكذلك فانّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوّة للرياح، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضاً، حيث يقول سبحانه: (وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره).(3) وفسّر البعض "منشأ" من مادّة (إنشاء) بمعنى إرتفاع الشيء، وإعتبروها إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوّة في حركة السفينة، وذلك بسبب دفع الرياح لها. "أعلام": جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معيّن، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها بـ (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على "الراية". وبهذا فإنّ القرآن الكريم نوّه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرّك على سطح المحيطات والبحار، وعلى خلاف ما يتصوّره البعض فانّ السفن الكبيرة لا تختّص بعصر الماكنة والبخار، بل لقد إستفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل قواتهم وجيوشهم. ومرّة اُخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان). بحوث 1 - البحر مركز النعم الإلهيّة لاحظنا في هذا القسم من الآيات إشارة إلى البحر وأهميّته في الحياة البشرية، وكما نعلم فإنّ مياه البحار والمحيطات تشكّل ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية، وهي منبع عظيم للمواد الغذائية، والطبية، وأدوات الزينة، ووسيلة مهمّة لنقل البشر وحمل البضائع، والأهمّ من ذلك فإنّ نزول الأمطار وإعتدال الهواء، وحتّى قسم من هبوب الرياح هي من بركات البحار، فإذا كان سطح البحار أقلّ أو أكثر ممّا هو عليه، فإنّ الكرة الأرضية إمّا أن تصبح يابسة أو رطبة لدرجة لا يمكن العيش فيها. لذلك نرى أنّ القرآن الكريم قد ذكّر الإنسان - لعدّة مرّات وبتعبيرات مختلفة بهذه النعمة العظيمة، ودعاه للتفكير بها، حيث يقول سبحانه: (وسخّر لكم البحر)الجاثية / 12. ويقول مرّة اُخرى: (وسخّر لكم الفلك) إبراهيم / 32. وقال سبحانه: (سخّر لكم ما في الأرض) الحجّ / 65. وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ البحر هو دار العجائب حيث فيه أصغر النباتات المجهرية، وكذلك أطول أشجار العالم، وفيه أيضاً أصغر الحيوانات وكذلك أعظمها وأضخمها. كما أنّ الحياة في أعماق البحار حيث لا ضوء ولا غذاء عجيبة إلى درجة أنّ الشخص لا يملّ من مطالعتها والإطلاع عليها، وكلّما تعرف الإنسان على شيء منها إزداد شغفاً بها، والعجيب أيضاً أنّ قسماً من الحيوانات هنالك تشعّ أضواءً وتُصنع مادّتها الغذائية على سطح البحر ومن ثمّ تترسّب، كما أنّ أطرافها محكمة ومقاومة إلى درجة أنّها تتحمّل ضغط الماء العظيم الذي إذا وضع الإنسان في حالته الطبيعيّة هناك فانّ عظامه تتحوّل إلى طحين. 2 - الأنهار البحرية العظيمة والكلف استيرين من العجائب الموجودة في محيطات العالم هو وجود أنهار عظيمة وتيارات بحرية كبيرة، وأقوى هذه الأنهار يسمّى (گلف استيرين). إنّ هذا النهر العظيم يتحرّك من سواحل أمريكا المركزية ويسير في جميع المحيط الأطلسي حتّى يصل إلى سواحل أوروبا الشمالية. والمعروف أنّ مياهه التي تسير من مناطق قريبة من خطّ الإستواء تكون حارة بل حتّى أنّ لونها يختلف عن لون المياه المجاورة، والعجيب أنّ عرض هذا النهر البحري العظيم (الكلف استيرين) بحدود (150) كم، كما أنّ أعمق نقطة فيه تبلغ مئات الأمتار، وسرعته في بعض المناطق شديدة بحيث تبلغ في اليوم الواحد بـ 160كم. إنّ إختلاف درجة حرارة هذا النهر مع المياه المجاورة بحدود 10 - 15 درجة مئوية، لذا فإنّ ساحله الغربي يسمّى بالجدار البارد. والكلف أستيرين يسبّب رياحاً حارّة ويدفع قسماً كبيراً من حرارته باتّجاه مدن أوروبا الشمالية، حيث يؤثّر على مناخ تلك البلدان بحيث يكون معتدلا للغاية، ويحتمل أن يكون العيش صعباً للغاية في هذه المناطق لو لم يوجد هذا المجرى العظيم. ونكرّر مرّة اُخرى أنّ (الكلف استيرين) هو أحد الأنهار في المحيطات، وهناك أنهار اُخرى كثيرة في بحار ومحيطات العالم. إنّ السبب الأساس في تكوين هذه الأنهار البحرية هو إختلاف حرارة المنطقة الإستوائية والمناطق القطبية والتي توجد هذه الحركة في مياه البحار. ويمكن إستيعاب هذا الموضوع بتجربة بسيطة: فإذا كان لدينا ماء في وعاء كبير، ووضعنا في جانب منه قطعة ثلجية، وفي الجهة الاُخرى قطعة حديدية حارّة، ووضعنا على سطح الماء قليلا من التبن، فإنّنا سنلاحظ ظهور حركة على سطح الماء حيث يتحرّك الماء ببطء من المنطقة الحارّة باتّجاه المنطقة الباردة. إنّ مثل هذه الحالة تحصل في كلّ بحار العالم، وهي مصدر ظهور هذه الأنهار البحرية. والعجيب أنّ هذه الأنهار العظيمة لا تمتزج مع المياه حولها إلاّ قليلا، وتسير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة، وبذلك تعبّر عن مصداقية الآية الكريمة (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان). والملفت للنظر أنّ في نقطة التقاء هذه المياه الحارّة مع المياه الباردة، تحدث ظاهرة مفيدة جدّاً للإنسان، وهي حدوث حالة من الإغماء أو الموت الجماعي للحيوانات المجهرية المعلّقة في الماء وذلك في نقطة التماس والإلتقاء بين المياه الحارّة والمياه الباردة وبهذا تتوفّر في هذه المناطق مواد غذائية كثيرة لا حصر لها وتكون سبباً في جذب قطعان الأسماك الكبيرة، حيث يقصد الصيادون هذه المناطق للإستفادة من صيد هذه الحيوانات، وتعتبر هذه المنطقة من أفضل المناطق في العالم لصيد الأسماك(4). وهذا يمثّل أحد التفاسير للآيات أعلاه، وهو لا يتنافى مع التفاسير الاُخرى، ولذا يمكن الجمع بينهما. 3 - تفسير من أعماق الآيات نقل في حديث للإمام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية (مرج البحرين يلتقيان) أنّه قال: "وعلي وفاطمة (عليهما السلام) بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه. (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال: الحسن والحسين"(5). ونقل هذا المعنى عن بعض أصحاب الرّسول (ص) في تفسير الدرّ المنثور(6). ونقله العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان مع إختلاف يسير. ومن هنا نعلم أنّ القرآن الكريم له بطون، وأنّ آية واحدة يمكن أن تكون لها معان متعدّدة بل عشرات المعاني. والتّفسير الأخير هو من بطون القرآن، ولا يتنافى مع المعاني الظاهرية له. ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ﴾ أي السفن ﴿الْمُنشَآتُ﴾ المرفوعات الشرع أو المحدثات ﴿فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ كالجبال ارتفاعا.