ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول سبحانه: (يسأله من في السموات والأرض).
ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه، وليس هذا في نهاية العالم فقط، وإنّما الآن أيضاً فانّ الكائنات فانية في مقابله وبقاءها مرتبط بمشيئته، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه، وعلى هذا فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه ويسألونه تدبير شؤونهم؟!
التعبير بـ (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات ومستمر من الذات الإلهيّة المقدّسة، والجميع يستلهمون من مبدأ فيضه، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط.
وإنّما في البقاء أيضاً.
ثمّ يضيف سبحانه: (كلّ يوم هو في شأن).
نعم إنّ خلقه مستمر، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما أنّ إبداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم، ويوماً يعطي السلامة والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له.
وخلاصة الأمر أنّه في كلّ يوم - وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل - يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.
والإلتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضّح إحتياجاتنا المستمرّة لذاته المقدّسة، ومن جهة اُخرى فإنّه يذهب اليأس والقنوط من القلوب، ومن جهة ثالثة فإنّه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.
نعم، إنّه سبحانه له في كلّ يوم شأن وعمل.
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكروا قسماً من هذا المعنى الواسع تفسيراً للآية، إلاّ أنّ البعض ذكر في تفسيرها، أنّها مغفرة الذنوب، وذهاب الحزن، وإعزاز أقوام وإذلال آخرين فقط.
والبعض الآخر قال: إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.
والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال: إنّ لله جيوشاً ثلاثة: جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الاُمّهات، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الاُمّهات، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.
وكما قلنا فإنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.
ونقرأ في رواية لأمير المؤمنين (ع) أنّه قال في أحد خطبه: "الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن، من إحداث بديع لم يكن"(3).
ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرم (ص) في تفسيره الآية الكريمة: "من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين"(4).
ولابدّ من الإنتباه لهذه النقطة أيضاً: إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة، وكذلك الساعات واللحظات، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.
كما أنّ البعض ذكروا شأناً نزولياً للآية، وهو أنّها نزلت ردّاً على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ الله عزّوجلّ يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت، ولا يصدر أي حكم(5).
فالقرآن الكريم يقول: إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.
﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ نطقا أو حالا ما يحتاجون إليه وهو كناية عن غناه وافتقارهم ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ وقت ﴿هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ من إيجاد وإعدام وقبض وبسط ونحوها.