(وقليل من الآخرين).
(ثلّة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من الصوف، ثمّ تحوّلت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.
وأخذها البعض أيضاً من (ثلّ عرشه) بمعنى سقط وإنهار، يقال (سقط عرشه وإنقلعت حكومته) وإعتبرها البعض (قطعة)، وذلك بقرينة المقابلة بـ (قليل من الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.
وطبقاً لهاتين الآيتين فإنّ قسماً كبيراً من المقرّبين هم من الاُمم السابقة، وقسم قليل منهم فقط هم من اُمّة محمّد (ص).
ويثار سؤال هنا وهو: كيف يتناسب العدد القليل من مقرّبي اُمّة محمّد مع الأهميّة البالغة لهذه الاُمّة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها من أفضل الاُمم؟ قال تعالى: (كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس ..).(12)
وللجواب على هذا السؤال يجدر الإلتفات إلى نقطتين:
الاُولى: إنّ المقصود من المقرّبين هم السابقون في الإيمان، ومن المسلّم أنّ السابقين لقبول الإسلام في الصدر الأوّل منه كانوا قلّة، أوّلهم من الرجال الإمام علي (ع)، ومن النساء خديجة (رض)، في الوقت الذي نعلم أنّ كثرة الأنبياء السابقين وتعدّد اُممهم، ووجود السابقين في كلّ اُمّة يؤدّي إلى زيادتهم من الناحية العددية.
والنقطة الثانية: أنّ الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية; حيث يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الاُمّة قليلا، إلاّ أنّ مقامهم أفضل كثيراً، كما هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم، إذ يختلفون بإختلاف درجاتهم: (تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض).(13)
وممّا يلزم ذكره أنّ قسماً من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في الإيمان، مع توفّر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة السابقين من حيث الأجر والجزاء، لذلك فقد نقل في بعض الرّوايات عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون"(14).
وجاء في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنّه خاطب مجموعة من أصحابه فقال لهم: "أنتم السابقون الأوّلون والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا إلى ولايتنا، وفي الآخرة إلى الجنّة"(15).
ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض المفسّرين فسّر "الأوّلين والآخرين" بـ(الأوّلين في الاُمّة الإسلامية والآخرين فيها) وإنسجاماً مع هذا الرأي فإنّ جميع المقرّبين هم من الاُمّة الإسلامية.
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والرّوايات التي وردت في ذيل هذه الآيات، حيث أنّها عرّفت أشخاصاً من الاُمم السابقة بالخصوص بعنوان أنّهم من السابقين الأوّلين.
﴿وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾ من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو جماعة من أول هذه الأمم وقليل من آخرها.