وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنّهم قالوا: (وكانوا يقولون أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون).
وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب، هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم.
وتعبير (كانوا يقولون)يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.
وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما:
الأوّل: أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و (أصحاب اليمين) لم يعط توضيحاً عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء، إلاّ ضمن إشارة عابرة.
أمّا عندما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت أفعالهم بصورة كافية، وذلك ليكون إتماماً للحجّة عليهم من جهة، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان إنسجاماً مع مبادىء العدالة تماماً من جهة اُخرى.
والمسألة الاُخرى: أنّ الذنوب الثلاثة التي اُشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اُصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.
ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الاُولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نبي إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على اُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون).(4)
والتعبير بـ (تراباً وعظاماً) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب، وعظامنا إلى رميم، ومع ذلك فكيف نكون خلقاً جديد؟
ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى: (تراباً وعظاماً).
والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها(5).
ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح تراباً ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اُخرى، وأساساً فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية، ولن يكون عليه ذلك صعباً وعسيراً ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.
﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ كررت الهمزة مبالغة في إنكارهم ولذا دخلت على الواو في.