وفي الآية اللاحقة يشير البارىء إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول: (أفرأيتم ما تمنون(3) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون).
من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كلّ يوم بخلق جديد وشكل جديد، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول واُولي الألباب من المفكّرين، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟
وهل أنّ القادر على الخلق المتكرّر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟
إنّ المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في قوله تعالى: (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثمّ نخرجكم طفلا).(3)
وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الإعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها، سوف يتّضح لنا الحال أكثر، حيث يقولون: إنّ الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدّاً وإنّ منيّ الرجل يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كلّ إنزال تقدّر بين (2 - 5) مليون حيمن وهذا يمثّل مقدار مجموع سكّان عدّة (بلدان في العالم)(4) هذا الحيوان المنوي يتّحد مع بويضة المرأة (أوول)، فتتكوّن البيضة المخصّبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر بصورة عجيبة، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان، ومع أنّ الخلايا متشابهة في الظاهر، إلاّ أنّها تتوزّع بسرعة إلى مجاميع عديدة، فقسم منها يختص بالقلب، والآخر بالأطراف، والثالث بالاذن والحنجرة، وكلّ مجموعة مستقرّة في مكانها المحدّد له، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب، ولا خلايا القلب تتحوّل إلى خلايا العين، ولا العكس.
والخلاصة أنّ "النطفة المخصّبة" في المرحلة الجنينيّة تمرّ بعوالم عديدة مختلفة حتّى تصبح جنيناً، وكلّ هذا في ظلّ خالقية إلهيّة مستمرّة، في حين أنّ دور الإنسان في هذه العملية بسيط جدّاً، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم، والذي ينجز بلحظة واحدة.
أليست هذه المسألة دليلا حيّاً على مسألة المعاد؟
أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلّل على قدرة إحياء الموتى أيضاً(5).
﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ﴾ ما تقذفونه في الأرحام من النطفة.