وأخيراً نصل إلى سابع - وآخر - دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهميّة له في المجالات الصناعية المختلفة، حيث يقول سبحانه: (أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن).
"تورون": من مادّة (ورى) على وزن (نفى) بمعنى الستر، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة "ورى" و "ايراء"، وخروجها يكون عن.
وتوضيح ذلك: إنّ لإشعال النار وإيجاد الشرارة الاُولى، والتي تستحصل اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك، فإنّهم كانوا يحصلون عليها من الحديد والحجر المخصّص للقدح، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر، أمّا أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاصّ الذي ينمو في الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الاُولى أسفل والعفار فوقه فتتولّد الشرارة منها كما تتولّد من الحجر المستعمل للقدح.
وفسّر أغلب المفسّرين الآية بأنّها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولّد للشرر والنار، في الوقت الذي تكون فيه الأشجار الخضراء مشبّعة بالماء، فأين الماء؟ وأين النار؟
هذا الخالق العظيم الذي يتميّز بهذه القدرة، الذي وضع الماء والنار جنباً إلى جنب الواحد داخل الآخر، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة، ويحييهم في الحشر.
وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة "يس" أيضاً يقول تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون).(4)
ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإنّ تعبير القرآن يمكن أن يكون إشارة إلى دليل أظرف، وهو حشر وتحرّر الطاقات وإنطلاقها.
وبتعبير آخر: فإنّ الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي لديها قابلية الإشتعال - كالخشب والحطب - حيث تولّد عند إحتراقها كلّ هذه الحرارة والطاقة.
وتوضيح ذلك: أنّه ثبت من الناحية العلمية أنّ النار التي نشاهدها اليوم عند إحتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مرّ السنين وادّخرتها في داخلها، فنحن نتصوّر أنّ أشعّة الشمس طيلة إشراقها على الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أنّ حرارتها قد ادّخرت في الشجرة، وعندما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالإحتراق وتطلق الحرارة الكامنة فيها.
وبذلك يكون هنا أيضاً معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرّة اُخرى، ولسان حال الأشجار يقول: إنّ الخالق الذي هيّأ لنا الحشر قادر أن يهيّأ لكم حشراً يابني البشر.
(ولمزيد من الإطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصّل الذي بيّناه في الآية من سورة يس).
جملة (يورون) - بمعنى إشعال النار - بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد منه توليد النار، إلاّ أنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضاً كالحطب بإعتباره ناراً خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.
ولا تنافي بين المعنيين، حيث المعنى الأوّل يفهمه العامّة من الناس، والثاني أدقّ، يتوضّح مع مرور الزمن وتقدّم العلم والمعرفة.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ تقدحون