وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّداً الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه: (نحن جعلناها تذكرةً ومتاعاً للمقوين).
إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة، ومن جهة اُخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنّم.
يقول الرّسول الأكرم (ص) "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم"(5).
أمّا تعبير (متاعاً للمقوين) فإنّه إشارة قصيرة ومعبّرة للفوائد الدنيوية لهذه النار، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين:
الأوّل: أنّ (مقوين) من مادّة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة المقفرة، ولهذا اُطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في الصحاري، ولأنّ أفراد البادية فقراء، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى "الفقير" أيضاً.
والتّفسير الثاني: أنّ (مقوين) من مادّة (قوّة) بمعنى أصحاب القوّة، وبناءً على هذا فإنّ المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادّين(6).
صحيح أنّ النار هي مورد إستفادة الجميع - ولكن المسافرين يستفيدون منها ويعتمدون عليها في الدفء والطهي وخاصّة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر من الآخرين.
وإستفادة "الأقوياء" من النار واضحة أيضاً، وذلك لإتّساع المجالات التي يستعملون النار فيها في اُمور حياتهم المختلفة، خصوصاً مع اتّساع دائرة البحث العلمي كما في عالمنا المعاصر، حيث إنّ الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرّك عجلة المصانع العظيمة، وإذا ما تعطّلت هذه الوسيلة المهمّة وإنطفأت شعلتها العظيمة - والتي جميعها من الشجر - بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة - فإنّها ستتعطّل الحياة المدنية، بل وستنطفيء حياة الإنسان أيضاً.
وبدون شكّ فإنّ النار من أهمّ إكتشافات البشر، في حين أنّ الله تعالى هو الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدّاً.
لقد قفز إكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي.
نعم هذه الحقائق جميعاً عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين).
وممّا يجدر ذكره أنّ الآية أعلاه إستعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار، والتي تذكّرنا بيوم القيامة، والتي هي محور الحديث في هذا البحث، ثمّ إنتقلت إلى ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها، لأنّ للناحية الاُولى أهميّة أكثر، بل تمثّل الأصل والأساس في البحث.
﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا﴾ أي النار ﴿تَذْكِرَةً﴾ لنار جهنم أو تبصرة في البعث كما مر في يس ﴿وَمَتَاعًا﴾ منفعة ﴿لِّلْمُقْوِينَ﴾ لنازلي القواء وهو الفقر أو للخالية بطونهم أو مزاودهم من الطعام من أقوى الربع خلا من أهله