التّفسير:
آيات للمتفكّرين:
قلنا: إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات الله سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية بالله، وتعمّق معرفته بذاته المقدّسة، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلّما تعمّق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة.
عندما سئل الإمام علي بن الحسين (ع) عن التوحيد أجاب: "إنّ الله عزّوجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد)، والآيات في سورة الحديد إلى قوله: (عليم بذات الصدور) ومن رام وراء ذلك فقد هلك"(1).
يستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الآيات تعطي للظمأى من طلاّب الحقيقة أقصى حدٍّ للمعرفة الممكنة.
وعلى كلّ حال فإنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه الله عزّوجلّ حيث يقول سبحانه: (سبّح لله ما في السموات والأرض).
لقد إنتهت السورة السابقة بأمر التسبيح، وإبتدأت هذه السورة المباركة بالتسبيح الإلهي أيضاً.
والجدير بالملاحظة أنّ في سور المسبّحات الخمس جاءت كلمة التسبيح ثلاث مرّات بصيغة الماضي (سبّح) في سور الحديد والحشر والصفّ، وفي موردين جاءت بصيغة المضارع (يسبّح) في سور الجمعة والتغابن، وهذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ جميع الكائنات في العالم قد سبّحت وتسبّح لذاته المقدّسة في الماضي والمستقبل.
وحقيقة "التسبيح" عبارة عن نفي كلّ عيب ونقص (2) عن الذات الإلهيّة، وشهادة جميع الكائنات في هذا العالم بطهارة ذاته من كلّ عيب، حيث أنّ النظم والحساب والحكمة والعجائب في نظام الكائنات...هذه جميعها تذكر (الله) بلسان حالها وتسبّحه وتحمده وتنزّهه وتؤكّد أنّ لخالقها قدرة لا متناهية، وحكمة لا محدودة.
ولذا جاء في نهاية هذه الآية: (وهو العزيز الحكيم).
كما يحتمل أن تتمتّع جميع ذرّات الوجود بنوع من الإدراك والشعور بحيث تسبّح وتحمد الله عزّوجلّ في عالمها الخاصّ، بالرغم من عدم معرفتنا لذلك بسبب محدودية علمنا وإطّلاعنا.
من أجل تفصيل أكثر حول حمد وتسبيح الكائنات أجمع يراجع نهاية الآية (44) من سورة الإسراء.
ويجدر الإنتباه إلى أنّ (ما) في جملة (سبّح لله ما في السماوات) لها معنى واسع بحيث تشمل كلّ موجودات العالم، أعمّ من ذوي العقول والأحياء والجمادات(3).
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ نزهه كل شيء نطقا أو حالا عما لا يليق به ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ حال يؤذن بموجب التسبيح.