وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكلّ منهما، وهو بمثابة الإستدلال والبرهان، وذلك بصورة إستفهام توبيخي إبتداءاً، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسول (ص) حول الإيمان بالله فيقول سبحانه: (وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم لتؤمنوا بربّكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحقّ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.
وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعاً من العهد التكويني منكم، فآمنوا به، إلاّ أنّكم - مع الأسف - لا تقيمون وزناً لعقلكم وفطرتكم، وكذلك لا تعيرون إهتماماً لتوجيهات الوحي، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.
ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة (إن كنتم مؤمنين) هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين شاهدوا الرّسول الأكرم (ص) وسمعوا دعوته مباشرةً وبلا واسطة، وشاهدوا معجزاته بأعينهم، من الإيمان بدعوته.
في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي: أنّ الرّسول الأكرم (ص) قال لأصحابه يوماً: (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟"
قالوا: الملائكة.
قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟" قالوا: الأنبياء.
قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟" قالوا: نحن.
قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها"(1).
وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسول (ص) ويشاهدون آثاره في الكتب - فقط - ويؤمنون بأحقيّة دعوته، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.
إنّ التعبير بـ "الميثاق" يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة)، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة، وهو شاهد على هذا المعنى أيضاً.
واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلاّ أنّ هذا المعنى مستبعد إلاّ أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقاً لعالم الذرّ(2).
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ حال من واو تؤمنون ﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ أي الله وقرىء ببناء المفعول ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ بالإيمان بنصب الأدلة والتمكين من النظر ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.