ثمّ يأتي إستدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: (وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض) أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.
(ميراث) في الأصل - كما قال الراغب في المفردات - هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون إتّفاق مسبق، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك، ولكن لكثرة إستعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.
وجملة (لله ميراث السماوات والأرض) بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعاً.
ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف سبحانه: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)(3).
هناك إختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة "الفتح" التي وردت في الآية، فقد إعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وإعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.
وبالنظر إلى أنّ كلمة "الفتح" فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة: (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضاً.
إلاّ أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من "الفتح" في هذه الآية هو جنس الفتح، والذي يمثّل إنتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية.
والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: (اُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).
والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة، أو فتح الحديبية، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو "أبو بكر".
في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسول (ص) ونزول آية الفتح والذي إستغرق من (6 - 8) سنوات، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص، طبقاً لما ورد في كتب التاريخ.
ومن الواضح أنّ أعداداً كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي، وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.
يجدر الإنتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد، وذلك إنسجاماً مع رأيهم السابق، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد بإعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية، تتهيّأ بواسطته.
إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.
وعلى كلّ حال، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع إختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية (وعد الله الحسنى).
وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.
وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.
ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية: (والله بما تعملون خبير).
نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم، وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم.
﴿وَمَا لَكُمْ﴾ أي شيء لكم في ﴿أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يرثهما وما فيهما وتصير إليه أموالكم فقدموا لأنفسكم منها بل إن صدقتم في محبتها فخذوها معكم وأرسلوها أمامكم بالإنفاق فإنها ذخر مذخور لا أن تبقوها بعدكم لغيركم المهنى وعليكم الوزر ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ لمكة ﴿وَقَاتَلَ﴾ وقسيمه ومن أنفق بعده وحذف لظهوره ودلالة ما بعده ﴿أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ عليه لسبقهم عند مس الحاجة وقوة يقينهم لضعف الإسلام حينئذ ﴿مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ أي من بعد الفتح ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي وعد كلا من الصنفين المثوبة الحسنى أي الجنة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم به.