ويرجع مرّة اُخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع، حيث يتكرّر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة، حيث يقول تعالى: (إنّ المصدّقين والمصدّقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم)(9).
أمّا لماذا طرحت مسألة الإنفاق بعنوان القرض الحسن لله سبحانه؟ ولماذا كان الجزاء المضاعف الأجر الكريم؟
يمكن معرفة الإجابة على هذه التساؤلات في البحث الذي بيّناه في نهاية الآية (11) من نفس هذه السورة.
احتمل البعض أنّ المقصود من القرض الحسن لله في هذه الآيات والآيات المشابهة(10) بمعنى الإقراض للعباد، لأنّ الله تعالى ليس بحاجة للقرض، بل إنّ العباد المؤمنين هم الذين بحاجة إلى القرض، ولكن بملاحظة سياق الآيات يفهم أنّ المقصود من "القرض الحسن" في كلّ هذه الآيات هو الإنفاق في سبيل الله، بالرغم من أنّ القرض لعباد الله هو من أفضل الأعمال أيضاً.
ويرى "الفاضل المقداد" أيضاً في كنز العرفان في تفسير القرض الحسن بأنّه كلّ الأعمال الصالحة(11).
موعظة وتوبة:
إنّ آية: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله...) من الآيات المثيرة في القرآن الكريم، حيث تليّن القلب، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة وتعلن منبّهة: ألم يأن للقلوب المؤمنة أن تخشع مقابل ذكر الله وما نزّل من الحقّ! وتحذّر من الوقوع في شراك الغفلة كما كان بالنسبة لمن سبق حيث آمنوا وتقبّلوا آيات الكتاب الإلهي، ولكن بمرور الزمن قست قلوبهم.
لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفراداً مذنبين جدّاً قد هداهم الله إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد منها، حتّى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد، ومن جملتهم العابد المعروف "فضيل بن عيّاض" الزاهد.
حيث يحكى عنه أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين "أبيورد" و "سرخس"، وعشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) قال: (بلى والله قد آن) فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتّى نصبح، فإنّ فضيلا قد قطع الطريق علينا.
فتاب الفضيل وأمّنهم، وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات(12).
ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد رجال البصرة المعروفين قال: بينما كنت أسير في طريق فسمعت فجأة صيحة، فذهبت متتبعاً آثارها، فشاهدت رجلا مغمى عليه على الأرض، قلت: ما هذا! قالوا: رجل واعي القلب سمع آية من القرآن وإندهش، قلت: أي آية؟ قالوا: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ...) وفجأة أفاق الرجل عند سماع صوتنا وبدأ بقراءة هذا الشعر المؤثّر:
أما آن للهجران أن ينصرما وللغصن غصن البان أن يتبسّما
وللعاشق الصبّ الذي ذاب وإنحنى ألم يأن أن يبكي عليه وير كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتاباً حكى نقش الوشي المنمنما
قال ذلك ثمّ سقط على الأرض.
مدهوشاً مرّة اُخرى، فحرّكناه وإذا به قد سلّم روحه إلى بارئه وربّه(13)
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ مر تفسيره