لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كلّ رذيلة، ورأس كلّ خطيئة، فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كلّ مرحلة من هذه المراحل، حيث يقول سبحانه: (اعلموا إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد). وبهذه الصورة فإنّ "الغفلة" و "اللهو" و "الزينة" و "التفاخر" و "التكاثر" تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان. ففي البداية مرحلة الطفولة، والحياة في هذه المرحلة عادةً مقترنة بحالة من الغفلة والجهل واللعب. ثمّ مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب، وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثاً وراء الوسائل والاُمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدّية. والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والعشق وحبّ الزينة. وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنّه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تتولّد في نفسه دوافع العلو والتفاخر. وأخيراً يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكّر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك. والمراحل الاُولى تشخّص حسب العمر تقريباً، إلاّ أنّ المراحل اللاحقة تختلف عند الأشخاص تماماً، والبعض من هذه المراحل تستمر مع الإنسان إلى نهاية عمره، كمرحلة جمع المال، وبالرغم من أنّ البعض يعتقد أنّ كلّ مرحلة من هذه المراحل الخمس تأخذ سنين من عمر الإنسان مجموعها أربعون سنة، حيث تتثبّت شخصية الإنسان عند وصوله إلى هذا العمر. كما أنّ بعض الأشخاص يمكن أن تتوقّف شخصيتهم في المرحلة الاُولى والثانية حتّى مرحلة الهرم، ولذا فإنّ سمات هذه المرحلة تبقى هي الشاخصة في سلوكهم وتكوين شخصياتهم، حيث اللعب والشجار واللهو هو الطابع العامّ لهم، وتفكيرهم منهمك للغاية في تهيئة البيت الأنيق والملابس الفاخرة وغير ذلك من متع الحياة الدنيا حتّى الموت ...إنّهم أطفال في سنّ الكهولة، وشيوخ في روحية الأطفال. ويذكر سبحانه مثالا لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه: (كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج فتراه مصفّراً ثمّ يكون حطاماً)(4). "كفّار" هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين، ولكن بمعنى "الزرّاع" لأنّ أصل الكفر هو التغطية، وبما أنّ الزارع عندما ينثر البذور يغطّيها بالتراب، فقد قيل له كافر، ويقال أنّ "الكر" جاء بمعنى القبر أحياناً، لأنّه يغطّي جسم الميّت كما ورد في (سورة الفتح الآية (29). وفي الحديث عن النمو السريع للنبات يقول تعالى: (يعجب الزرّاع) إذ وردت هنا كلمة "الزرّاع" بدلا من الكفّار. ويحتمل بعض المفسّرين أيضاً أنّ المقصود من "الكفّار" هنا هو نفس الكفر بالله تعالى وذكروا عدّة توجيهات لهذا، والظاهر أنّ هذا التّفسير لا يتناسب وسياق الآية، إذ أنّ المؤمن والكافر شريكان في هذا التعجّب. (حطام) من مادّة (حطم) بمعنى التكسير والتفتيت، ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة. إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة أشهر، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير. ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان). وأخيراً تنهي الآية حديثها بهذه الجملة: (وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور). "غرور" في الأصل من مادّة (غَرّ) على وزن "حرّ" بمعنى الأثر الظاهر للشيء، ويقال (غُرّة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان، ثمّ اُطلقت الكلمة على حالة الغفلة، حيث أنّ ظاهر الإنسان واع، ولكنّه غافل في الحقيقة، وتستعمل أيضاً بمعنى الخدعة والحيلة. "المتاع" بمعنى كلّ نوع ووسيلة يستفاد منها، وبناءً على هذا فإنّ جملة (الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور)تعني أنّها وسيلة وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين. وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي، وتكون منتهى غاياتهم، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية، فذلك لا يعدّ من الدنيا، بل ستكون جسراً وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّاً. من البديهي أنّ النظر إلى الدنيا باعتبار أنّها "مقرّ" أو "جسر" سوف يعطي للإنسان توجّهين مختلفين، الأوّل: يكون سبباً للنزاع والفساد والتجاوز والظلم، والطغيان والغفلة، والثاني: وسيلة للوعي والتضحية والاُخوة والإيثار. تعقيب 1 - مقام الصدّيقين والشهداء وصف القرآن الكريم الأنبياء العظام وأمثالهم بأنّهم (صدّيقون) ومن جملتهم إبراهيم (ع): (إنّه كان صدّيقاً نبيّاً)(5). ووصف إدريس (ع) بنفس الوصف قال تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صدّيقاً نبيّاً)(6). وحول اُمّ المسيح السيّدة مريم (ع) نقرأ قوله تعالى: (واُمّه صدّيقة)(7). كما جاء ذكر (الصدّيقين) على مستوى الأنبياء أو من معهم في بعض الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: (ومن يطع الله والرّسول فاُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقاً)(8) وكما قلنا فإنّ هذا المصطلح صيغة مبالغة من مادّة (صدق) تقال للشخص الذي يحيط الصدق كلّ وجوده، وينعكس الصدق في أفكاره وأقواله وأعماله وكلّ حياته، وهذا يعكس لنا أهميّة مقام الصدق. أمّا (الشهداء) فكما قلنا يمكن أن يقصد بهم الشهداء على الأعمال أو بمعنى الشهداء في سبيل الله، وفي الآية مورد البحث يمكن الجمع بين الرأيين. ومن الطبيعي أنّ "الشهيد" في الفكر الإسلامي لا ينحصر بالشخص الذي يقتل في ميدان الجهاد، بالرغم من أنّه أوضح مصداق لمفهوم الشهيد، بل ينطبق على كلّ الأشخاص الذين يؤمنون بالعقيدة الإلهيّة ويسيرون في طريق الحقّ حتّى رحيلهم من الدنيا، وذلك تماشياً مع الروايات الإسلامية فإنّها تعدّ هؤلاء في زمرة الشهداء. جاء في حديث عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "العارف منكم هذا الأمر المنتظر له المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمّد بسيفه. ثمّ قال: بل والله كمن جاهد مع رسول بسيفه. ثمّ قال الثالثة: بل والله كمن إستشهد مع رسول الله في فسطاطه، وفيكم آية من كتاب الله، قلت: وأي آية جعلت فداك؟ قال: قول الله عزّوجلّ: (والذين آمنوا بالله ورسله اُولئك هم الصدّيقون والشهداء عند ربّهم ...) ثمّ قال: "صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم"(9). وننهي هذا الموضوع بحديث: لأمير المؤمنين(10) عندما كان بعض أصحابه يستعجلون في أمر الجهاد ونيل الشهادة ...حيث قال: "لا تستعجلوا ما لم يعجله الله لكم، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً"(11). 2 - الحياة الدنيا ...لهو ولعب يصف القرآن الكريم - أحياناً - الحياة الدنيا بأنّها لهو ولعب، كما في قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو)(12). ويصفها أحياناً باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، كما في الآيات مورد البحث. ويصفها أحياناً بأنّها (متاع الغرور) كما في قوله تعالى (وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور)(13). ويصفها أحياناً بأنّها (متاع قليل) كما جاء في: (الآية 77 من سورة النساء). وأحياناً يصفها بأنّها عارض ظاهري سريع الزوال. "النساء" (94). ومجموع هذه التعبيرات والآيات القرآنية توضّح لنا وجهة نظر الإسلام حول الحياة المادية ونعمها، حيث إنّه يعطيها القيمة المحدودة التي تتناسب مع شأنها، ويعتبر الميل إليها والإنشداد لها ناشئاً من توجّه غير هادف (لعب) و (لهو) وتجمّل و (زينة) وحبّ المقام والرئاسة والأفضلية على الآخرين (تفاخر) والحرص وطلب المال والأولاد بكثرة (التكاثر) ويعتبر التعلّق بها مصدراً للذنوب والآثام والمظالم. أمّا إذا تحوّلت النظرة إلى هذه النعم الإلهيّة، وأصبحت سلّماً للوصول إلى الأهداف الإلهيّة، عندئذ تصبح رأسمال يشتريها الله من المؤمنين ويعطيهم عوضها جنّة خالدة وسعادة أبديّة، قال تعالى: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة...)(14). ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ﴾ وتزين ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ تزهيد في الدنيا وبيان حقارة أمورها وسرعة زوالها ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾ الحراث أو الكفرة بالله المعجبون بالدنيا ﴿نَبَاتُهُ﴾ الذي نشأ واستوى عنه ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ييبس ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ فتاتا ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ لمن اشتغل عنها بالدنيا ونكر تعظيما وكذا ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ إن لم يشتغل بالدنيا ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ما التمتع بأعراضها ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.