التّفسير:
المسابقة المعنوية الكبرى!!
بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال... تأتي الآيات مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه، حيث يقول سبحانه: (سابقوا إلى مغفرة من ربّكم، جنّة عرضها عرض السماء والأرض اُعدّت للذين آمنوا بالله ورسله).
وفي الحقيقة أنّ مغفرة الله هي مفتاح الجنّة، تلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض وقد اُعدّت من الآن لضيافة المؤمنين، حتّى لا يقول أحد إنّ الجنّة نسيئة ودَين ولا أمل في النسيئة، فعلى فرض أنّها نسيئة فانّها أقوى من كلّ نقد، لأنّها ضمن وعد الله القادر على كلّ شيء وأصدق من كلّ وعد، فكيف الحال وهي موجودة الآن وبصورة نقد؟!
وقد ورد نفس هذا المعنى في سورة آل عمران (الآية رقم 133) مع إختلاف بسيط، حيث إنّ في الآية مورد البحث جاءت كلمة (سابقوا) من مادّة (المسابقة) وهنالك وردت كلمة (سارعوا) من مادّة (المسارعة)، وكلاهما قريب من الآخر بالنظر إلى مفهوم باب "المفاعلة" حيث تتجسّد غلبة شخصين أحدهما على الآخر.
والإختلاف الآخر هو أنّها هنالك قد جاءت بوصف: (عرضها السماوات والأرض) وهنا جاءت: (عرضها كعرض السماء والأرض) وإذا دقّقنا قليلا يتّضح أنّ هذين التعبيرين يوضّحان حقيقة واحدة أيضاً.
ويقول سبحانه هناك: (اُعدّت للمتّقين) وهنا يقول: (اُعدّت للذين آمنوا).
ولأنّ المتّقين ثمرة شجرة الإيمان الحقيقي، فإنّ هذين التعبيرين في الواقع كلّ منها لازم وملزوم للآخر.
وبهذه الصورة فإنّ الإثنين يتحدّثان عن حقيقة واحدة ببيانين مختلفين، ولهذا فما ذكره البعض من أنّ الآية (سورة آل عمران تشير إلى "جنّة المقرّبين"، وآية مورد البحث تشير إلى "جنّة المؤمنين"، صحيح حسب الظاهر.
وعلى كل حال فالتعبير بـ (عرض) هنا ليس في مقابل (الطول) كما قال بعض المفسّرين حيث كانوا يبحثون عن طول تلك الجنّة التي عرضها مثل السماء والأرض، ولهذا السبب فإنّهم واجهوا صعوبة في توجيه ذلك، حيث إنّ العرض في مثل هذه الإستعمالات بمعنى "السعة".
والتعبير بـ "المغفرة" قبل البشارة بالجنّة - الذي ورد في الآيتين - هو إشارة لطيفة إلى أنّه ليس من اللائق الدخول إلى الجنّة والقرب من الله قبل المغفرة والتطهير.
وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة الله لابدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة، وأساساً فانّ طاعة الله عزّوجلّ يعني تجنّب المعاصي، ولكنّنا نجد في بعض الأحاديث تأكيد على القيام بالواجبات وبعض المستحبّات كالتقدّم للصفّ الأوّل في الجماعة، أو الصفّ الأوّل في الجهاد، أو تكبيرة الإحرام مع إمام الجماعة، أو الصلاة في أوّل وقتها، فهذه من قبيل بيان المصداق ولا يقلّل شيئاً من المفهوم الواسع للآية.
ويضيف تعالى في نهاية الآية: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الإتّساع وبهذه النعم، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية - فقط - هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله، إذ أنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائماً بمقياس العمل، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يرينا بوضوح أنّ الثواب والجزاء لا يتناسب مع طبيعة العمل، حيث أنّه نوع من التفضل والرحمة.
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ إلى ما يوجبها ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ لو تواصلتا وذكر العرض مبالغة في وضعها بالسعة لأنه دون الطول ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ وهي الآن مخلوقة ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فيتفضل بأعظم من ذلك.