لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهمّ حيث يقول تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). هاتان الجملتان القصيرتان تحلاّن - في الحقيقة - إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة، لأنّ الإنسان يواجه دائماً مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود، ويسأل دائماً نفسه هذا السؤال وهو: رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم...، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟! ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو: ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة...كما ورد في الآية أعلاه. والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبر والجسر الذي إسمه الدنيا بشكل لا تستولي على لباب قلوبكم، وتفقدوا معها شخصيّتكم وكيانكم وتحسبون أنّها خالدة وباقية، حيث إنّ هذا الإنشداد هو أكبر عدوٍّ لسعادتكم الحقيقية، حيث يجعلكم في غفلة عن ذكر الله ويمنعكم من مسيرة التكامل. هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها. والحقيقة أنّ المظاهر البرّاقة لدار الغرور تبهر الإنسان وتلهيه بسرعة عن ذكر الحقّ سبحانه، وقد يستيقظ فجأةً ويرى أنّ الوقت قد فات وقد تخلّف عن الركب. هذه الحوادث كانت ولا تزال في الحياة، وستبقى بالرغم من التقدّم العلمي العظيم، ولن يستطيع العلم أن يمنع حدوثها ونتائجها المؤلمة، كالزلازل والطوفان والسيول والأمطار وما إلى ذلك...وهي درس من قسوة الحياة وصرخة مدوّية فيها...وهذا لا يعني أن يعرض الإنسان عن الهبات الإلهية في هذا العالم أو يمتنع من الإستفادة منها، ولكن المهمّ ألاّ يصبح أسيراً فيها، وألاّ يجعلها هي الهدف والنقطة المركزية في حياته. والجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم إستعمل لفظ (فاتكم) للدلالة على ما فقده الإنسان من أشياء، أمّا ما يخصّ الهبات والنعم التي حصل عليها فإنّه ينسبها لله، (بما آتاكم)، وحيث أنّ الفوت والفناء يكمن في ذات الأشياء، وهذا الوجود هو من الفيض الإلهي. نعم، إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية: (إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور). "مختال" من مادّة (خيال) بمعنى متكبّر، لأنّ التكبّر من التخيّل، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه، وتصوّره أنّه أعلى من الآخرين. و(فخور) صيغة مبالغة من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيراً على الآخرين. والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل. ومن ملاحظة ما تقدّم أعلاه فإنّ المؤمنين عندما يرزقون النعم من قبل الله سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها، ولا يغفلون ويسكرون بوجودها. إذ يعتبرون أنفسهم كالأشخاص المسؤولين عن بيت المال إذ يستلمون في يوم أموالا كثيرة ويدفعونها في اليوم الثاني، وعندئذ لا يفرحون بإستلامها، ولا يحزنون على إعطائها. وكم هو تعبير رائع ما قاله أمير المؤمنين (ع) حول هذه الآية: "الزهد كلّه بين كلمتين في القرآن الكريم قال تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطر فيه"(6). والنقطة الاُخرى الجديرة بالملاحظة هي أنّ هذا الأصل - وجود المصائب - في حياة الإنسان أمر قدّر عليه طبقاً لسنّة حكيمة، حيث أنّ الدنيا في حالة غير مستقرّة، وهذا الأصل يعطي للإنسان الشجاعة لتحمّل المصائب ويمنحه الصلاة والسكينة أمام الحوادث ويكون مانعاً له من الجزع والضجر...ونؤكّد مرّة اُخرى أنّ هذا يتعلّق - فقط - بالمصائب المقدّرة والغير قابلة للردّ، وإلاّ فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات والإلتزامات الإلهيّة، فإنّها خارجة عن هذا البحث، ولمواجهتها لابدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان. وننهي هذا البحث بما ذكر في التاريخ حيث نقل عن بعض المفسّرين ما يلي: قال "قتيبة بن سعيد"(7): دخلت على إحدى قبائل العرب فرأيت صحراء مملوءة بجمال ميّتة لا تعدّ، وكانت بقربي امرأة عجوز فسألتها: لمن هذه الجمال؟ قالت: لذلك الرجل الجالس فوق التل الذي تراه يغزل، فذهبت إليه وقلت: هل هذا كلّه لك؟ قال: كانت باسمي، قلت: ما الذي جرى وأصبحن بهذا الحال؟ فأجابني - دون الإشارة إلى علّة موتهنّ - إنّ المعطي قد أخذ. قلت: هل ضجرت لما أصابك؟ وهل قلت شيئاً بعد مصابك؟ قال: بلى. وأنشد هذين البيتين: لا والذي أنا عبد من خلائقه والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن ما سرّني أنّ إبلي في مباركها وما جرى من قضاء الله لم يكن أنا راض برضى الله تعالى فقط وكلّما يقدّر فأنا أقبله(8). ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا﴾ لئلا تحزنوا ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من حظوظ الدنيا حزنا يبلغ الجزع ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ أعطاكم الله منها فرح بطر واختيال ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ متكبر على الناس بما أوتي ﴿فَخُورٍ﴾ عليهم به.