لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير: الهدف الأساس من بعثة الأنبياء: إبتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي اُشير إليها في الآيات السابقة...ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في إستعمالها، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة، لذا فانّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث - التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى - تشير إلى هذا المعنى، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة، حيث يقول سبحانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). "البيّنات" هي الدلائل الواضحة، ولها معنى واسع يشمل المعجزات والدلائل العقليّة التي تسلّح بها الأنبياء والرسل الإلهيّون. المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد، لذا فإنّ التعبير بـ (كتاب) جاء بصيغة مفرد. وأمّا "الميزان" فيعني وسيلة للوزن والقياس، ومصداقها الحسّي هو الميزان الذي يقاس به وزن البضائع، ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الربّانية، أو جميع هذه الاُمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيّئة. وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي: "الدلائل الواضحة"، و "الكتب السماوية"، و "معيار قياس الحقّ من الباطل" والجيّد من الرديء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم. وعلى كلّ حال، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية، هو إقامة القسط والعدل. وفي الحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل، لأنّنا نعلم أنّ بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل أهداف عدّة: منها: التعليم والتربية، كما جاء في الآية التالية: (هو الذي بعث في الاُمّيين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة...)(1). والهدف الآخر كسر الأغلال والقيود التي أسّرت الإنسان، كما قال تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(2). والهدف الثالث إكمال القيم الأخلاقية، كما جاء في الحديث المشهور: "بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق"(3). والهدف الرابع إقامة القسط والعدل، الذي اُشير إليه في الآية مورد البحث. وبهذا الترتيب نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية: (الثقافية، الأخلاقية، السياسية، الإجتماعية). ومن الواضح أنّ المقصود من الرسل في الآية مورد البحث، وبقرينة إنزال الكتب، هم الأنبياء أُولي العزم ومن يمثّلهم. وممّا يجدر ذكره أنّ المقصود من التعبير القرآني: (ليقوم الناس بالقسط) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها. والمهمّ أن يتربّى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون واعين له داعين إليه، منفّذين لبرامجه وسائرين في هذا الإتّجاه بأنفسهم. ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والإجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، وإستمراراً لمنهج الآية هذه يقول سبحانه: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس). نعم، إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة، وتحقّق أهدافها المنشودة، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله. وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ تعبير (أنزلنا) يعكس لنا أنّ الحديد جاء من كرات سماوية إلى الأرض، إلاّ أنّ الصحيح أنّ التعبير بـ (الإنزال) في مثل هذه الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى، ولأنّ خزائن كلّ شيء عند الله تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة، فعبّر عنه بالإنزال، وهنا حديث لأمير المؤمنين (ع) في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال: "إنزاله ذلك خلقه إيّاه"(4). كما نقرأ في الآية (رقم 6) من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج). وفسّر البعض (أنزلنا) بأنّها من مادّة (نزل) على وزن (شبر) بمعنى الشيء الذي يهيّأ لإستقبال الضيوف، ولكن الظاهر أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب. "البأس" في اللغة بمعنى الشدّة والقسوة والقدرة، ويقال للحرب والمبارزة (بأس) أيضاً، ولذا فإنّ المفسّرين فسّروها بأنّها الوسائل الحربية، أعمّ من الدفاعية والهجومية، ونقل في رواية عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "يعني السلاح وغير ذلك"(5). والواضح أنّ هذا من قبيل بيان المصداق. والمقصود من "المنافع" هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصراً جديداً بعد إكتشافه، سمّي بعصر الحديد، لأنّ هذا الإكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه. وقد اُشير إلى هذا المعنى بآيات مختلفة في القرآن، منها قوله تعالى بشأن تصميم ذي القرنين على صنع سدّه العظيم: (آتوني زبر الحديد)(6). وكذلك قوله سبحانه: (وألنّا له الحديد أن اعمل سابغات)(7) وذلك عندما شمل لطفه عزّوجلّ داود (ع) بتليين الحديد له ليستطيع أن يصنع دروعاً منه يقلّل فيها أخطار الحروب وهجمات العدو. ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا، حيث يقول تعالى: (فليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب). المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟ ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميّز الخبيث من الطيّب)(8). وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة إختبار وتمحيص وإستخراج الصفوة التي إستجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج. ومن الطبيعي أنّ المقصود بـ (نصرة الله) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة، وإقامة الحقّ والقسط... وإلاّ فإنّ الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد، بل الكلّ محتاج إليه، ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى: (إنّ الله قوي عزيز). حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم، بل يقلبه رأساً على عقب بإشارة واحدة، ويهلك أعداءه، وينصر أولياءه...وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر، لذا فقد دعاهم عزّوجلّ إلى نصرة مبدأ الحقّ. تعقيب 1 - الحدود بين القوّة والمنطق رسمت الآية أعلاه صورة وافية ومفصّلة من وجهة النظر الإسلامية في مجال التربية والتعليم، وتوسعة دائرة العدل وإقامة القسط في المجتمع الإنساني. ففي البداية أكّدت الآية على ضرورة الإستفادة من الدلائل والبيّنات والكتب السماوية، وضوابط القيم، وبيان الأحكام والقوانين...وذلك لترسي أساساً لثورة فكرية وثقافية متينة مرتكزة على قاعدة من العقل والمنطق. إلاّ أنّه في حالة عدم جدوى تلك الوسائل والأساليب، وحين الوصول إلى طريق مغلق في الإستفادة من الاُسلوب المتقدّم بسبب تعنّت الطواغيت، ومواجهة الإستكبار لرسل الحقّ والقسط، والإعراض عن قيم وضوابط وأحكام (الكتاب والميزان) ...فهنا يأتي دور "الحديد"، الذي فيه "بأس شديد" حين يوجّه صفعة قويّة على رؤوس الجبابرة بهذا السلاح كي يستسلموا للقسط والعدل ودعوة الحقّ التي جاء بها الأنبياء (عليهم السلام)، ومن الطبيعي أنّ نصرة المؤمنين أساسيّة في هذا المجال. وورد حديث عن رسول الله (ص) في هذا الصدد حيث قال: "بعثت بالسيف بين يديّ الساعة، حتّى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي، تحت ظلّ رمحي"(9). وهذا الحديث إشارة إلى أنّ الرّسول (ص) مأمور بحمل السلاح أمام الكفر والإستكبار، ولكن لا بلحاظ أنّ هذا هو الأصل والأساس في المنهج الإسلامي كما جاء ذلك صراحة في الآية الكريمة أعلاه. ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "الخير كلّه في السيف، وتحت السيف، وفي ظلّ السيف"(10). وجاء عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال في هذا الصدد: "إنّ الله عزّوجلّ فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلاّ به"(11). ونختم حديثنا بقول آخر لرسول الله (ص): "لا يقيم الناس إلاّ بالسيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنار"(12). وبناءً على هذا فإنّ القادة الإلهيين يحملون في يد الكتب السماوية وهي مشعل الحقّ، وباليد الاُخرى السيف. يدعون الناس أوّلا بالعقل والمنطق إلى الحقّ والعدل، فإن أعرض الطواغيت عن المنطق، ورفض المستكبرون الإستجابة لنهج الحقّ والعقل عندئذ يأتي دور السيف والقوّة لتحقيق أهدافهم الإلهية. 2 - الحديد وإحتياجات الحياة الأساسية بعض المفسّرين شرح هدف الآية أعلاه بما يلي: إنّ الحياة الإنسانية بصورة عامّة تتقوّم بأربعة مرتكزات (الزراعة، والحياكة، أي الصناعة،ـ والسكن، والسلطة)، ولهذا السبب فإنّ الحاجات الأساسية للإنسان باعتباره موجوداً إجتماعياً تتركّز بـ (الغذاء والسكن واللباس) والتي لا يستطيع أن يوفّرها لنفسه بصورة فردية، ومسألة تأمينها بشكل عام لابدّ أن تكون بواسطة المجتمع ولأنّ كلّ مجتمع لا يخلو من تزاحم المصالح، وكذلك العديد من المشاكل والتعقيدات. لهذا، فإنّه بحاجة إلى (سلطة) تجري العدل فيه وترعى الحقوق وتنظّم الحياة ...والملفت هنا أنّ هذه الاُسس الأربعة المتقدّمة الذكر تعتمد جميعها بشكل أساسي على الحديد، وعلينا أن نتصوّر كم ستكون حياة الإنسان صعبة لو لم يكن هذا المعدن (الحديد) في خدمتها. ولأنّ الحاجة إليه ماسّة ومتزايدة، فإنّ الله سبحانه قد وفّره بحيث سهّل ويسّر عملية الحصول عليه، وبالرغم من عدم إغفال الدور المفيد لكلّ من الفلّزات الاُخرى، إلاّ أنّ الحديد يبقى له دور أساس في حياة الإنسان. ومن هنا يتوضّح مقصود قول الله عزّوجلّ: (فيه بأس شديد ومنافع للناس)(13). ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى أممهم ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج الواضحة ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي جنسه أي الكتب لتقرير الشرائع ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ آلة الوزن أو صفتها أو العدل أي أمرنا به ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ليلزموا العدل فيما بينهم ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ أي أنشأناه ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ يحارب به ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ لاحتياج كل صنعة إليه ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ علم ظهور عطف على محذوف دل عليه فيه بأس لتضمنه تعليلا أو التقدير وأنزله ليعلم ﴿مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ بآلات الحرب وغيرها ﴿بِالْغَيْبِ﴾ حال من هاء ينصره أي غائبا عن أبصارهم ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ لا يحتاج إلى نصركم.