لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى (ع) آخر رسول قبل نبيّنا محمّد (ص) حيث يقول سبحانه: (ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا). حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر، حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيح (ع): (وقفّينا بعيسى ابن مريم). "قفّينا" من (قفا) بمعنى الظهر، ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضاً، وتطلق عادةً على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر، والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة، الواحد تلو الآخر، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم...وهذا التعبير جميل جدّاً، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة. ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح (ع) حيث يقول: (وآتيناه الإنجيل) ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: (وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمة). ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي "الرأفة" و "الرحمة" بمعنى واحد، إلاّ أنّ قسماً آخر إعتبرهما مختلفين وقالوا: إنّ "الرأفة" تعني الرغبة في دفع الضرر، و "الرحمة" تعني الرغبة في جلب المنفعة. ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً، لأنّ قصد الإنسان إبتداءً هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة. وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)(1). إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيح (ع) لم يذكر في هذه الآية فقط، بل ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: (ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون)(2) وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الإعتبار مسيحيي الحبشة وشخص "النجاشي" بالذات، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة، إلاّ أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين. ومن الطبيعي ألاّ يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر الأعمال وأكثرها إجراماً وإنحطاطاً بحقّ الشعوب المستضعفة، هؤلاء الذين تلبّسوا بلباس الإنسانية، وهم في الحقيقة ذئاب مفترسة تصبغ حياة المحرومين بلون الدم والظلام...ثمّ يضيف سبحانه: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ إبتغاء رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون)(3). وممّا تقدّم يتّضح لنا أنّ هؤلاء ليسوا ممّن لم يراعوا مبدأ التوحيد للسيّد المسيح (ع) فقط، بل دنسوه بأنواع الشرك، ولم يراعوا أيضاً حتّى حقّ الرهبانية التي ابتدعوها باسم الزهد، حيث وضعوا مكائد في طريق خلق الله، وجعلوا من الأديرة والكنائس مراكز لأنواع الفساد، وأوجدوا إنحرافاً خطيراً في رسالة السيّد المسيح (ع). ومن مفهوم الآية يتّضح لنا أنّ الرهبانية لم تكن جزءاً من رسالة السيّد المسيح (ع)، إلاّ أنّ أتباعه هم الذين ابتدعوها من بعده، حيث بدأت بشكل معتدل ثمّ مالت نحو الإنحراف. وطبقاً لتفسير آخر فإنّ نوعاً من الرهبانية والزهد كان من مبدأ السيّد المسيح(ع)، إلاّ أنّ أتباعه وأصحابه ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم يقرّرها الله لهم(4). والتّفسير الأوّل هو الأكثر شهرةً، والمناسب أكثر من بعض الجهات. وعلى كلّ حال، فالمستفاد من الآية أعلاه إجمالا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح (ع)، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي، إلاّ أنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الإنحراف - فيما بعد - وتحريف التعاليم الإلهية، بل إقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن. والتعبير القرآني بجملة: (فما رعوها حقّ رعايتها) دليل على أنّه لو اُعطي حقّها لكانت سنّة حسنة. وما ورد في الآية التالية التي تتحدّث عن الرهبان والقساوسة يتناول هذا المعنى حيث يقول تعالى: (لتجدنّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا، الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون)(5) (يرجى ملاحظة ذلك). وهكذا يتبيّن أنّ كلمة "الرهبانية" كلّما كانت بمعنى الرأفة والرحمة فإنّها تشكّل دليل إضافياً على صحّة الإدّعاء أعلاه، لأنّها ستكون بمعنى مستوى الرأفة والرحمة التي وضعها الله في قلوبهم بعنوان أنّها صفة حميدة. ومختصر الكلام هو: إذا وجدت سنّة حسنة بين الناس تكون اُصولها الكليّة وخطوطها العريضة في دائرة المبدأ الحقّ (كالزهد، مثلا، فإنّ ذلك ليس عملا قبيحاً، بل يعتبر مصداقاً من مصاديق الخطّ العام للمبدأ، خاصّة إذا لم تنسب هذه السنّة إلى المبدأ الإلهي...ولسوء الحظّ فإنّ جملة من الإفراطات والتفريطات وجدت بين ظهرانينا تحت قناع الدين وتحوّلت إلى سنّة سيّئة. إنّ مراسم الأعياد والتعازي والوفيّات الخاصّة بعظماء الإسلام وما يتعلّق بإحياء ذكرى الشهداء والأحبّة الراحلين - سواء في يوم إستشهادهم، أو اليوم السابع، أو بعد مرور أربعين يوماً من الشهادة أو الوفاة، وكذا ما يتعلّق بذكراهم السنوية - هو مصداق للمفاهيم الكليّة في الإسلام حول تعظيم شعائر الله تعالى، وإحياء ذكر قادة الإسلام وعموم شهداء المسلمين، وبغضّ النظر عن الجزئيات والتفاصيل فإنّ هذه المراسم مصداق من الأصل الكلّي فقط، ولا يمكن إعتبارها مبادىء شرعية. وكلّما أنجزت هذه المراسم بدون تجاوز للحدود الشرعية وعدم تدنيسها بالخرافات والممارسات اللا شرعيّة، فإنّها - من المسلّم - مصداق لابتغاء رضوان الله، ومصداق سنّة حسنة، وفي غير هذه الصورة فإنّها ستكون بدعة الشؤم والسنّة السيّئة. "الرهبانية" من مادّة (رهب) مأخوذة من معنى الخوف من الله، ويفهم أنّها كانت في البداية مصداقاً للزهد وعدم الإهتمام بشؤون الدنيا، إلاّ أنّها تعرّضت فيما بعد لإنحرافات واسعة، وإذا ما لاحظنا موقف الإسلام المناهض والمقاوم للرهبانية بشدّة فمن هذا الباب وبهذا اللحاظ. كما سنستعرض ذلك فيما يلي: بحوث 1 - الإسلام والرهبانية ذكرنا أنّ الرهبانية أخذت من "الرهبة" التي جاءت بمعنى الخوف من الله، وكما يقول الراغب في المفردات، الخوف الذي يكون ممزوجاً بالزهد والإضطراب والترهّب يعني: (التعبّد والعبادة)...والرهبانية بمعنى: (شدّة التعبّد). وإذا فسّرنا الآية أعلاه بأي شكل، فإنّها ترينا أنّها كانت نوعاً من الرهبانية الممدوحة بين المسيحيين، بالرغم من أنّها لم تكن أصلا وإلزاماً فيما جاء به السيّد المسيح من عند الله تعالى، إلاّ أنّ أتباع السيّد المسيح (ع) أخرجوا (الرهبانية) من حدودها وجرّوها إلى الإنحراف والتحريف، ولهذا فإنّ الإسلام ندّد فيها بشدّة، حتّى أنّ الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف: "لا رهبانية في الإسلام"(6). ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرّغ (للرهبنة) والإنزواء الإجتماعي، وإهمال كافّة المسؤوليات الإنسانية في المجتمع، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة، والعيش في محيط منزو عن المجتمع...بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان، كما سنشير إلى جوانب منها في هذا البحث إن شاء الله. وبالرغم من أنّ هؤلاء الرجال البعيدين عن الدنيا (الرهبان والراهبات) قد أدّوا خدمات إيجابية كثيرة كتمريض المصابين بأمراض خطرة كالجذام وما شابهه، بالإضافة إلى القيام بالتبليغ والإرشاد بين أقوام بدائية متوحّشة، وقيامهم ببرامج للدراسة والتحقيق...إلاّ أنّ هذه الاُمور تعتبر قليلة الأهميّة قياساً إلى المفاسد التي إقترنت معها. وأساساً فإنّ الإنسان مخلوق إجتماعي، وتكامله المادّي والمعنوي مبتن على هذا الأساس، وما جاءت به الأديان السماوية لا ينفي دور الإنسان في المجتمع، بل يحكم قواعده واُسسه بصورة أفضل. إنّ الله سبحانه أوجد الغريزة الجنسية في الإنسان لحفظ النسل، وكلّ مذهب أو قانون يتعارض مع هذه الغريزة فإنّه باطل. الزهد الإسلامي الذي يعني البساطة في الحياة والإبتعاد عن الكماليات، وعدم الوقوع في أسر المال والموقع - لا يرتبط أصلا بمسألة الرهبانية، لأنّ الرهبانية تعني الإنفصال والغربة عن المجتمع، والزهد يعني التحرّر من الماديّات والترفّع عن المغريات لكي تتمّ المعايشة بصورة إجتماعية أفضل. ونقرأ في قصّة "عثمان بن مظعون" في موت ولده أنّه لم يعد يخرج للعمل حزناً عليه، وإنشغل في العبادة وترك كلّ عمل سواها وجعل من بيته مسجداً...فعندما وصل خبره للرسول (ص)، أحضره وقال له: "ياعثمان، إنّ الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنّما رهبانية اُمّتي الجهاد في سبيل الله"(7). وذلك إشارة إلى أنّ الإعراض عن الحياة الماديّة والإنزواء الإجتماعي، وتعطيل الأعمال بصورة سلبية، يجب أن يصبّ في مسير إيجابي، وذلك بالجهاد في سبيل الله. ثمّ أنّ الرّسول الكريم (ص) بيّن له بعض فضائل صلاة الجماعة، والتي هي تأكيد على نفي الرهبانية في الشرع الإسلامي. وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع) عندما سأله أخوه علي بن جعفر: الرجل المسلم هل يصلح أن يسيح في الأرض أو يترهّب في بيت لا يخرج منه قال (ع): "لا". وتوضيح ذلك: إنّ السياحة التي نهي عنها في هذه الرواية، هي تلك الممارسة التي تكون على مستوى الرهبانية ويمكن أن نطلق عليها (الرهبانية السيّارة) وذلك أنّ بعض الأفراد قبل أن يوفّروا لأنفسهم المستلزمات الأساسية لحياتهم من سكن أو عمل أو مصدر عيش...فإنّهم يقومون بالسياحة والتجوّل في ربوع الدنيا وبدون تهيئة مستلزمات الطريق من الزاد والمال...بل يعتمدون على أخذ المساعدات من الناس عند كلّ نقطة يصلون إليها، ظانّين أنّ ذلك نوعاً من الزهد وترك الإنشغال بالدنيا. إلاّ أنّ الإسلام كما نفى الرهبانية الثابتة، فإنّه قد نفى الرهبانية السيّارة أيضاً إنسجاماً مع التعاليم الإسلامية، فإنّ الزهد والصلاح مهمّ للإنسان المسلم، شريطة أن يكون في قلب المجتمع وليس في الإنزواء والغربة عنه والبعد منه. 2 - المصدر التأريخي للرهبانية لم تكن الرهبانية موجودة بشكلها الحالي في القرون الاُولى للتاريخ المسيحي، وقد ظهرت بعد القرن الميلادي الثالث في حكم الإمبراطور الروماني (ديسيوس) - وقتاله الشديد لأتباع السيّد المسيح (ع)، ونتيجة لما لحق بهم من الأذى من قبل هذا الإمبراطور المتعطّش للدماء، فإنّهم لجأوا إلى الجبال والصحاري(8). وجاء هذا المعنى بصورة أدقّ في الروايات الإسلامية حيث نقل عن رسول الله (ص) أنّه قال لابن مسعود: "هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال (ص): "ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله، فغضبت أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرّات، فلم يبق منهم إلاّ القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (ع) (يعنون محمّداً) - فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه، ومنهم من كفر". ثمّ قال: "أتدري ما رهبانية اُمّتي؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحجّ والعمرة"(9). والمؤرّخ المسيحي المشهور (ويل دورانت) ينقل في تأريخه المعروف في ج13 بحثاً مفصّلا حول الرهبانية، حيث يعتقد أنّ إرتباط الراهبات (النساء التاركات للدنيا) بالرهبان بدأ منذ القرن العاشر الميلادي(10). وبدون شكّ فإنّ هذه الظاهرة الإجتماعية - كما هو شأن كلّ ظاهرة اُخرى لها أُسساً روحية بالإضافة إلى الاُسس التأريخية، حيث يمكن الإشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة ردّ الفعل الروحي للأشخاص والأقوام تختلف فيما بينها مقابل الإندحارات والمصاعب التي يواجهوها. حيث يميل البعض نتيجة لذلك إلى الإنزواء والإنشغال بالاُمور الشخصية فقط، ويبعدون أنفسهم بصورة كاملة عن المجتمع والنشاطات الإجتماعية، في الوقت الذي يتعلّم آخرون من الإنتكاسات والمصاعب دروس الإستقامة والصلابة والقدرة على تحدّي المشاكل ومقاومتها. ومن هنا فإنّ القسم الأوّل يلتمس طريق الرهبانية أو أي سلوك مشابه له، بعكس القسم الثاني الذي يصبح أكثر تماساً بالمجتمع وأقوى في مواجهة تحديّاته. 3 - المفاسد الأخلاقية والإجتماعية الناشئة من الرهبانية إنّ الإنحراف عن قوانين الخلقة غالباً ما يكون مصحوباً بإنفعالات سلبية، وبناءً على هذا فلا عجب فيمن يبتعد عن الحياة الإجتماعية التي هي جزء من فطرته أن يصاب بردود فعل شديدة، لذلك فإنّ الرهبانية - لأنّ منهجها خلافاً لطبيعة الإنسان وفطرته - فإنّها استبطنت مفاسد كثيرة من جملتها: أوّلا: أنّ الرهبانية تتعارض مع طبيعة الإنسان المدنية وبالتالي فإنّها تؤدّي بالمجتمعات الإنسانية إلى الإنحطاط والتخلّف. ثانياً: ليست الرهبانية عائقاً عن كمال النفس وتهذيب الروح والأخلاق فقط، بل تجرّ إلى الإنحرافات الأخلاقية والكسل وسوء الظنّ والغرور والعجب والتشاؤم وما إلى ذلك، وعلى فرض أنّ الإنسان إستطاع أن يصل إلى فضيلة أخلاقية في حالة الإنزواء، فإنّها في الواقع لا تعدّ كذلك، إذ أنّ الفضيلة أن يحرّر الإنسان نفسه من التلوث الأخلاقي في قلب المجتمع. ثالثاً: إنّ ترك الزواج والإعراض عنه، والذي هو من مبادىء الرهبانية، ليس فقط يعوق عن الكمال، بل هو سبب لظهور العقد والأمراض النفسية وما إلى ذلك. ونقرأ في دائرة المعارف أنّ بعض الرهبان كانوا يعتبرون الإهتمام بجنس المرأة عمل شيطاني، لحدّ أنّهم منعوا وجود اُنثى أي حيوان في الدير خوفاً من الروح الشيطانية لهذه الاُنثى التي قد تدنّس روحانيّتهم وتسبّب لها إنتكاسة. ومع هذه الحالة فإنّ التأريخ يذكر لنا فضائح عديدة من الأديرة إلى حدّ أن وصفها (ويل دورانت) بأنّها بيوت للفحشاء والدعارة، ومراكز لتجمّع عبّاد البطون وطلاّب الدنيا واللاهين، بحيث أنّ أفضل المشروبات كانت توجد في الأديرة. وطبقاً لشهادة التأريخ فإنّ السيّد المسيح (ع) لم يتزوّج أبداً، وهذا لم يكن بسبب موقف له من سنّة الزواج، بل لقصر عمره، وإنشغاله المستمر في مسؤولياته الرسالية التي كانت تستدعي منه السفر والتجوّل والتبليغ في المناطق النائية في العالم، وهي التي لم تسمح له بالزواج. إنّ البحث حول الرهبانية يستحقّ كتاباً مستقلا، وإذا أردنا أن نستفيض في هذا البحث فإنّنا سنخرج عن بحث التّفسير. وننهي بحثنا هذا بحديث للإمام علي (ع) تعقيباً على المفهوم الذي طرحته الآية التالية حيث تقول الآية: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً)(11) فقد قال (ع) في تفسيرها: "هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري"(12). 4 - إنجيل أم أناجيل! "الإنجيل" في الأصل مصطلح يوناني بمعنى البشارة أو تعليم جديد، وهو اسم الكتاب الذي نزّل على السيّد المسيح (ع)، وجاء هذا المصطلح إثني عشرة مرّة في القرآن الكريم، وقد استعمل بهذا المعنى. والجدير بالملاحظة هنا أنّ ما يعرف باسم الإنجيل اليوم كتب كثيرة يعبّر عنها بالأناجيل، والمشهور منها أربعة وهي "لوقا" و "مرقس" و "متّى" و "يوحنّا" ويعتقد المسيحيون أنّ هذه الأناجيل كتبت بواسطة أربعة من أصحاب السيّد المسيح (ع) أو طلاّبه، وتأريخ تأليفها يرجع إلى ثمان وثلاثين سنة بعد السيّد المسيح (ع) إلى غاية قرن بعده، وبناءً على هذا فإنّ الكتاب الأصلي للسيّد المسيح - الذي هو كتاب سماوي مستقل - قد إندثر، وبقي بعضه في ذاكرة طلاّبه الأربعة، حيث مزج مع أفكارهم وحرّرت هذه الأناجيل. ولدينا بحث مفصّل أكثر في هذا المجال في نهاية الآية (رقم3) من سورة آل عمران. ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ رسولا بعد رسول ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ فتوادوا وتعاطفوا ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ هي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس وروي أنها صلاة الليل ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ من قبل أنفسهم ﴿مَا كَتَبْنَاهَا﴾ ما فرضناها ﴿عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ منقطع أي لكن فعلوها طلب رضاه ﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾ جمعا ﴿حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ إذ تركها كثير منهم وكفروا بعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومنهم من بقي على دينه وآمن لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.