سبب النّزول:
نقل بعض المفسّرين سبباً لنزول الآيات أعلاه، والذي خلاصته ما يلي:
إنّ قسماً من منافقي المدينة - كعبدالله بن اُبي وأصحابه - أرسلوا شخصاً إلى يهود بني النضير وأبلغهم بما يلي: أثبتوا في أماكنكم بقوّة، ولا تخرجوا من بيوتكم، وحصّنوا قلاعكم، وسيكون إلى جنبكم ألفا مقاتل من قومنا مدد لكم، وإنّنا معكم حتّى النهاية.
كما أنّ بني قريظة وقبيلة غطفان والمتعاطفين معكم سيلتحقون بكم أيضاً.
إنّ هذه الرسالة - التي وجّهها المنافق عبدالله بن اُبي إلى يهود بني النضير - أوجدت لديهم الإصرار والعناد على مخالفة الرّسول (ص) والخروج عن أمره، وفي هذه الحالة انبرى (سلام) أحد كبار يهود بني النضير إلى "حي بن أخطب" الذي كان أحد وجوه بني النضير وقال له: لا تهتّموا بكلام عبدالله بن اُبي، إنّه يريد أن يدفعكم لقتال محمّد ويجلس في داره ويسلّمكم للحوادث، قال حي: نحن لا نعرف شيئاً إلاّ العداء لـ (محمّد) والقتال له، فأجابه سلام: اُقسم بالله أنّي أراهم سيخرجوننا قريباً ويهدرون أموالنا وشرفنا وتؤسر أطفالنا ويقتل مقاتلونا(1).
وأخيراً تبيّن الآيات أعلاه نهاية المطاف لهذا المشهد.
ويعتقد البعض أنّ هذه الآيات نزلت قبل قصّة يهود بني النضير، حيث تتحدّث عن الحوادث المستقبلية لهذه الوقائع، وبهذا اللحاظ فإنّهم يعتبرونها إحدى المفردات الغيبية للقرآن الكريم.
ورغم أنّ التعابير التي وردت في الآيات الكريمة كانت بصيغة المضارع وبذلك تؤيّد وجهة النظر هذه، إلاّ أنّ العلاقة بين هذه الآيات والآيات السابقة التي نزلت بعد إندحار بني النضير وإبعادهم عن المدينة، تؤكّد لنا أنّ هذه الآيات أيضاً نزلت بعد هذا الحادث، ولذا كان التعبير بصيغة المضارع بعنوان حكاية الحال."فتدبّر"
التّفسير:
دور المنافقين في فتن اليهود:
بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كلّ منهم في الآيات مورد البحث، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين، وهذا هو منهج القرآن الكريم، حيث يعرّف كلّ طائفة بمقارنتها مع الاُخرى.
وفي البداية يتحدّث مع الرّسول (ص) حيث يقول سبحانه: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وان قوتلتم لننصرنّكم).
وهكذا فانّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود باُمور ثلاثة، وجميعها كانت كاذبة:
الأوّل: إذا أخرجتم من هذه الأرض فإنّنا سوف لن نبقى بعدكم نتطلّع إلى خواء أماكنكم ودياركم.
والأمر الآخر: إذا صدر أمر ضدّكم من أي شخص، وفي أيّ مقام، وفي أي وقت، فإنّ موقفنا الرفض له وعدم الإستجابة.
والأمر الثالث: إنّه إذا وصل الأمر للقتال فإنّنا سوف نقف إلى جانبكم ولا نتردّد في نصرتكم أبداً.
نعم، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث، إلاّ أنّ الحوادث اللاحقة أوضحت كذب إدّعاءاتهم ووعودهم.
ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة (والله يشهد أنّهم لكاذبون).
كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة، من شهادة الله عزّوجلّ، وكون الجملة إسمية، وكذلك الإستفادة من (إنّ) واللام للتأكيد، وكلّها تفيد أنّ الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحدّ لا يمكن فصلهما، لقد كان المنافقون كاذبين دائماً، والكاذبون منافقين غالباً.
والتعبير بـ (إخوانهم) يوضّح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدّاً بين "المنافقين" و "الكفّار"، كما ركّزت الآيات السابقة على علاقة الاُخوة بين المؤمنين، مع ملاحظة الإختلاف بين الفصيلتين، وهو أنّ المؤمنين صادقون في اُخوتهم لذلك فهم لا يتبرّمون بكلّ ما يؤثرون به على أنفسهم، على عكس المنافقين حيث ليس لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض، وتتبيّن حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات الحرجة حيث يتخلّون عن أقرب الناس لهم، بل حتّى عن إخوانهم، وهذا هو محور الإختلاف بين نوعين من الاُخوة، اُخوة المؤمنين واُخوة المنافقين.
وجملة: (ولا نطيع فيكم أحداً أبداً) تشير إلى موقف المنافقين الذي أعلنوه لليهود بأنّهم سوف لن يراعوا التوصيّات والإنذارات التي أطلقها رسول الله(ص)فيهم.
﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ كابن أبي وأضرابه ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ﴾ في الكفر ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم النضير ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ من وطنكم ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ﴾ في خذلانكم ﴿أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾ واستغنى بجوابه عن جواب الشرط في الخمسة ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما يقولون.