التّفسير:
كونوا كالحواريين:
في الآية الأخيرة من سورة الصفّ يدور الحديث مرّة اُخرى حول محور (الجهاد) الذي مرّ ذكره سابقاً في هذه السورة، إلاّ أنّ الحديث عنه يستمرّ هنا في هذه الآية - أيضاً باُسلوب جديد.
لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمّة غير الجنّة والنّار وذلك بقوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله).
نعم، أنصار الله، الله الذي هو منشأ جميع القدرات، ومرجعها، صاحب القدرة التي لا تقهر واللامتناهية، هذا الربّ العظيم والإله الجبّار يطلب من عباده النصرة والعون، وهذا فخر لا مثيل له، فالبرغم من أنّ معناه ومفهومه هو إعانة ونصرة الرّسول (ص) ومبدئه وعقيدته، إلاّ أنّه ينطوي على طلب العون والنصرة لله سبحانه، وهذا غاية اللطف ومنتهى الرحمة والعظمة.
ثمّ يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضّح سبحانه أنّ هذا الطريق لن يخلو من السالكين والعشّاق الإلهيين حيث يضيف تعالى: (كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله).
ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والإعتزاز: (قال الحواريون نحن أنصار الله) وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية، ومتصدّين لحرب أعداء الحقّ والرسالة، حيث يقول سبحانه: (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة).
وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول سبحانه: (فأيّدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين).
وأنتم أيضاً ياحواريي محمّد، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية واللطف الإلهي، لأنّكم أنصار الله، وإنّ النصر على أعداء الله سيكون حليفكم أيضاً، كما انتصر الحواريون عليهم، وسوف تكون العزّة والسمو من نصيبكم في هذه الدنيا وفي عالم الآخرة.
وهذا الأمر غير منحصر أو مختّص بأصحاب وأعوان رسول الله (ص)فحسب، بل جميع أتباع الحقّ الذين هم في صراع دائم ضدّ الباطل وأهله، إنّ هؤلاء جميعاً هم أنصار الله، وممّا لا شكّ فيه فإنّ النصر سيكون نصيبهم وحليفهم لا محالة.
تعقيب
من هم الحواريون؟
جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرّات، مرتين منها في هذه السورة المباركة.
"الحواريون": تعبير يراد به الإشارة إلى إثني عشر شخصاً من الأنصار الخواص لعيسى (ع) وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حالياً كـ (إنجيل متّى، ولوقا باب6).
وهذا المصطلح من مادّة (حور) بمعنى الغسل والتبييض - جعل الشيء أبيض - كما مرّ بنا سابقاً، لأنّهم يتمتّعون بقلوب طاهرة وأرواح نقيّة، وكانوا يسعون دائماً لغسل نفوسهم والآخرين من دنس الذنوب وتطهيرها من الآثام، لذا اُطلق عليهم هذا المصطلح.
وجاء في بعض الرّوايات أنّ المسيح (ع) أرسلهم جميعاً ممثّلين عنه إلى مناطق مختلفة من العالم، وذلك لإخلاصهم، وتضحيتهم وجهادهم وحربهم ضدّ الباطل، وكانوا أيضاً ممّن يكنّون أعمق الحبّ والولاء للمسيح (ع).
وتحدّثنا الرّوايات أنّ جميعهم قد بقي على العهد إلاّ واحداً منهم فإنّه قد خان ونكص واسمه (يهوداي أسخريوطي) ممّا حدا المسيح (ع) في نهاية المطاف إلى طرده.
ولقد تناولنا توضيحات عديدة حول هذا في تفسير الآية (52) من سورة آل عمران.
جاء في حديث أنّ رسول الله (ص) قال للنفر الذين لاقوه بالعقبة: "أخرجوا إليّ إثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم"(17) ممّا يعكس أهميّة هؤلاء العظام.
اللهمّ، وفّقنا للمشاركة مع أوليائك في هذه التجارة الرابحة والإستفادة من بركاتها العظيمة...
ربّنا: إنّ الإختلاف والتفرقة في صفوف المسلمين قد أضعفت مكانة المسلمين صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص في مواجهة أعدائهم.
إلهنا، إنّ دينك القويم لم يبق يوماً دون ناصر، فاكتبنا من أنصاره وحماته وأعوانه...
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة الصفّ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ﴾ لدينه ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ﴾ هم أصفياؤه وأول من آمن به كانوا اثني عشر من الحور وهو البياض ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي من الأنصار الكائنون معي متوجها إلى الله ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بعيسى ﴿وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ﴾ منهم به ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾ الطائفة الكافرة ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ غالبين بالحجة أو الحرب.