ثمّ تتجاوز الآية مرحلة الملامة والعتاب الى لهجة أشدّ وأسلوب تهديديّ جديد، فتقول: (إِلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً).
فإِذا كنتم تتصورون أنّكم إِذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب الى سوح الجهاد، فإنّ عجلة الإِسلام ستتوقف وينطفىء نور الإِسلام، فأنتم في غاية الخطأ والله غني عنكم (ويستبدل قوماً غيركم) قوماً أفضل منكم من كل جهة، لا من حيث الشخصيّة فحسب، بل من حيث الإِيمان والإِرادة والشهامة والإِستجابة والطاعة (ولا تضرّوه شيئاً).
وهذه حقيقة وليست ضرباً من الخيال أو أمنية بعيدة المدى، فالله عزيز حكيم (والله على كل شيء قدير).
ملاحظات
1 - في الآيتين آنفتي الذكر تأكيد على الجهاد من سبعة وجوه:
الأوّل: أنّها تخاطب المؤمنين (يا أيّها الذين آمنوا).
الثّاني: أنّها تأمر بالتحرك نحو ميدان الجهاد (انفروا).
الثّالث: أنّها عبرت عن الجهاد بـ (في سبيل الله).
الرّابع: الإِستفهام الإِنكاري في تبديل الدنيا بالآخرة (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ؟
الخامس: التهديد (بالعذاب الأليم).
السّادس: الاِستبدال بالمخاطبين (قوماً) غيرهم.
السّابع: أنّ الله على كل شيء قدير ولا يضره شيئاً وإِنّما يعود الضرر على المتخلفين.
2 - يستفاد من الآيتين - آنفتي الذكر - أن تعلق قلوب المجاهدين بالحياة الدنيا يضعف همتهم في أمر الجهاد، فالمجاهدون ينبغي أن يكونوا معرضين عن الدنيا، زُهّاداً غير مكترثين بزخارفها وزبارجها.
ونقرأ دعاء للإِمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) لأهل الثغور وحُماة الحدود، إِذ تقول: "وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون".
ولو عرفنا قيمة الدنيا وحالها شأن الآخرة ودوامها معرفة حقّة، لوجدنا أنّ الدنيا زهيدة بالمقارنة والموازنة مع الآخرة الى درجة أنّها لاتحسب شيئاً ونقرأ حديثاً عن رسول الله (ص) في هذا الصدد يقول فيه: "والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثمّ يرفعا فينظر بِمَ ترجع"!
3 - هناك كلام بين المفسّرين في المراد من قوله تعالى: (يستبدل قوماً غيركم) الوارد في الآي محل البحث فمن هم هؤلاء؟!
قال بعضهم: هم الفرس وقال آخرون: بل هم أهل اليمن.
ولكلّ منهم أثره في تقدم الإِسلام.
وقال آخرون: إِنّ المراد بالنص السابق هم أُولئك القوم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتقبلوا الإِسلام، بعد أن نزلت الآيتان آنفتا الذكر.
﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ﴾ إلى ما دعيتم إليه ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ في الدنيا والآخرة ﴿وَيَسْتَبْدِلْ﴾ بكم ﴿قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ مطيعين كأهل اليمن أو أبناء فارس ﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ﴾ أي الله ﴿شَيْئًا﴾ بترك نصرة دينه ﴿وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ومنه نصر دينه ورسوله ببلدكم وبلا مدد.