ثمّ تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم).
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: "المحصنات" أي العفيفات الطاهرات الذيل و"الغافلات" البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و"المؤمنات"، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل(4).
كما أنّ عبارة - "غافلات" تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.
ويحتمل أن يكون المراد من "الغافلات" أنهن لا يعلمن بما ينسب اليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهنّ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلاّ أنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحدّ الشرعي: فتقول الآية: أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائماً، لأنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.
إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك، وظهورها بمظهر الإرتباط بذلك الحادث، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص، وهي ذات مفهوم عامّ، لا تختص بحالة معينة.
والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسّرين كالفخر الرازي في "التّفسير الكبير"، وآخرين، على أنّ مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النّبي(ص) ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر، ويستدلون بكلمة "اللعن" التي ذكرتها الآية، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة - حتى إن كان هذا الذنب عظيماً كإتهام نساء النّبي(ص) لوحده سبباً للكفر. لهذا لم يعامل النّبي(ص) أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بيّنا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم، فذنبهم لا يُوازي الكفر بالله.
وأمّا "لعنة الله" فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضاً، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدِّثة عن حدّ القذف (في الأحكام الخاصّة باللعان) مرتين كلمة "لعن" ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كراراً كلمة "اللعن" ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث "لعن الله في الخمر عشر طوائف..." معروف.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ العفائف ﴿الْغَافِلَاتِ﴾ عن الفواحش ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالله ورسوله ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وعيد عام لكل قاذف ما لم يتب.