ثمّ يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب، حيث يقول تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اُذن واعية).
إنّنا لم نرد الإنتقام منكم أبداً، بل الهداية والخير والسعادة، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.
"تعيها" من مادّة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات، و (ابن منظور) في لسان العرب: إنّها في الأصل بمعنى الإحتفاظ بشيء معيّن في القلب، ومن هنا قيل للإناء (وعاء) لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.
والإنسان تارةً يسمع كلاماً إلاّ أنّه كأن لم يسمعه، وفي التعبير السائد: يسمع باُذن ويخرجه من الاُخرى.
وتارةً اُخرى يسمع الكلام ويفكّر فيه ويتأمّله.
ويجعل ما فيه خير في قلبه، ويعتبر الإيجابي منه مناراً يسير عليه في طريق حياته... وهذا ما يعبّر عنه بـ (الوعي).
تعقيب
1 - فضيلة اُخرى من فضائل الإمام علي (ع)
جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة - أعمّ من كتب التّفسير والحديث - أنّ رسول الله (ص) قال عند نزول الآية أعلاه (وتعيها اُذن واعية): "سألت ربّي أن يجعلها اُذن علي"، وبعد ذلك كان يقول الإمام علي (ع): "ما سمعت من رسول الله شيئاً قطّ فنسيته، إلاّ وحفظته"(238).
ونقل في (غاية المرام) ستّة عشر حديثاً في هذا المجال عن طريق الشيعة وأهل السنّة، كما ينقل (المحدّث البحراني) أيضاً في تفسير (البرهان) عن (محمّد بن عبّاس) ثلاثين حديثاً في هذا المجال نقلت عن طريق العامّة والخاصّة.
وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي (ع) حيث يكون موضع أسرار الرّسول، ووارث علمه (ص)، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه - الموافق له والمخالف - بعد رسول الله (ص) وذلك عندما يواجهون المشاكل الإجتماعية والعلمية المختلفة، ويطلبون منه التدخّل في حلّها، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.
2 - التناسب بين (الذنب) و (العقاب)
وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد العذاب الذي سلّط على قوم ثمود، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي حلّ بقوم عاد، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير (الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلّق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم نوح ...والملاحظ من التعبيرات السابقة أنّها جميعاً تشترك في مفهوم واحد وهو: (الطغيان والتمرّد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعاً أي إنّ عذاب هؤلاء الطغاة تحقّق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعمّ من الماء والهواء والتراب والنار.
كما أنّ هذه التعبيرات - أيضاً - تؤكّد على حقيقة مهمّة، وهي أنّ العقوبات التي نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلاّ تجسيد لحقيقة أعمالنا، وأنّ أعمالنا نحن البشر تعود علينا خيراً كانت أم شرّاً.
﴿لِنَجْعَلَهَا﴾ أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ﴿لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ عبرة ﴿وَتَعِيَهَا﴾ ولتحفظها ﴿أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ من شأنها أن تعي وتحفظ هي أذن علي (عليه السلام) كما رواه العام والخاص.