سبب النّزول:
ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29 - 32) مطابق لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة، وتوضح سبب النّزول باختصار كما يلي:
1 - انطلق الرّسول (ص) إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكّة ليدعو الناس إلى الإسلام، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي الجن، وبقي فيه ليلاً وهو يقرأ القرآن، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثمّ راحوا يدعون قومهم إليه.(1)
2 - عن ابن عباس قال: كان النّبي (ص) منشغلاً بصلاة الصبح، وكان يقرأ فيها القرآن، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علّة انقطاع الأخبار من السماء، فقالوا: هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما سمعوا.(2)
3 - بعد وفاة أبي طالب (ع) اشتدّ الأمر برسول اللّه (ص)، فعزم على الذهاب إلى الطائف ليبحث عن أنصار له، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه، ويرمونه بالحجارة حتى اُدميت قدماه (ص)، فالتجأ متعباً إلى ضيعة من الضياع، فرآه غلام صاحب الضيعة وكان اسمه "عداس"، فآمن بالنّبي (ص) ثمّ رجع إلى مكّة ليلاً وصلّى صلاة الصبح وهو بنخله، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو اليمن، وكانوا قد مرّوا بذلك الطريق فآمنوا به (3).
وقد نقل بعض المفسّرين ما يشابه هذا المعنى في أوّل السورة، ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أنّ علقمة بن قيس قال: قلت لعبد اللّه بن المسعود: من كان منكم مع النّبي (ص) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة فقلنا: اغتيل رسول اللّه (ص) أو استطير، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلاً من نحو حراء، فقلنا: يارسول اللّه، اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: "إنّه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن" (4).
التفسير:
القرآن العجيب!!
نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النّزول يقول اللّه تعالى: (قل أوحي إليّ أنّه استمع نفرٌ من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً) (5).
التعبير بـ (اُوحي إليّ) يشير إلى أنّ النّبي (ص) لم يشاهد الجنّ بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلاً وشعوراً وفهماً وإدراكاً، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير والمعجز، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور الحي الذي يمكن الإستفادة منها في هذه الآية، ولهم خصوصيات اُخرى سوف نبيّنها في نهاية هذا البحث، وإنّ شاء اللّه تعالى.
إنّ لهم الحقّ في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً، لِلَحنِه العجيب، ولجاذبية محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الاُميين، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أيّ حديث آخر ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.
لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ بـ (أن) وهي دلالة على التأكيد (6).
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ﴾ أي الشأن ﴿اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ جن نصيبين أو غيرهم ويفيد أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون ويفهمون لغة العرب ويميزون بين المعجز وغيره بدليل ﴿فَقَالُوا﴾ لقومهم لما رجعوا إليهم ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ عجيبا مباينا لأشكاله في حسن مبانيه وصحة معانيه.