والآية الأُخرى إشارة إلى حقيقة أُخرى بنفس الشأن، فيضيف: (لنفتنهم) هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟
ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الإمتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الإنحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى ويُهيء الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هو الذاكرون للّه على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين (2).
ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).
"صعد": على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: (سأُرهقه صعوداً).
ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالإختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق اُشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً).
وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان (ع): (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر)، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: (واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة).
﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾ لنختبرهم ﴿فِيهِ﴾ ليظهر كيف يشكرونه وقيل معناه لو استقاموا على طريقة الكفر لوسعنا عليهم استدراجا لهم ﴿وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ﴾ وعظه أو عبادته ﴿يَسْلُكْهُ﴾ يدخله بالنون والياء ﴿عَذَابًا صَعَدًا﴾ شاقا يتصعد المعذب ويعلوه