التفسير:
يشير سياق الآيات كما بيّنا إلى دعوة الرّسول الأكرم (ص) للإستقامة والإستعداد لقبول مهمّة كبيرة وثقيلة، وهذا لا يتمّ إلاّ بالبناء المسبق للذات، فيقول: (يا أيّها المزّمل (1)، قم الليل إلاّ قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً).
الطريف في هذه الآيات أنّ المخاطب هو الرّسول (ص)، ولكن لا بعنوان يا أيّها الرّسول، أو يا أيّها النّبي، بل بعنوان يا أيّها المزمل، إشارة إلى إنّ هذا ليس زمان التزمل والإنزواء، بل زمان القيام والبناء الذاتي والإستعداد لأداء الرسالة العظيمة، واختيار الليل لهذا العمل أوّلاً: لأنّ أعين الأعداء نائمة، وثانياً: تتعطل الأعمال المكاسب، ولهذا فإنّ الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.
وكذلك إختيار القرآن لأنّ يكون المادة الأُولى في البرنامج العبادي في الليل إنّما هو لإقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب، وهو يعدّ من أفضل الوسائل لتقوية الإيمان والإستقامة والتقوى وتربية النفوس، والتعبير بالترتيل الذي يراد به التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والإنتظام اللازم، والأداء الصحيح للحروف، وتبيّن الحروف، والدقّة والتأمل في مفاهيم الآيات، والتفكر في نتائجها.
وبديهي أنّ مثل هذه القراءة تعطي الإنسان الرّشد والنمو المعنوي السريع والشهامة الخلقية وتهب التقوى، وإذا فسّره البعض بالصلاة فذلك لأنّ أحد أجزاء الصلاة المهمّة هي قراءة القرآن.
عبارة "قم الليل" تعني النهوض في مقابل النوم، وليس الوقوف فحسب، وأمّا ما جاء من العبارات المختلفة في هذه الآيات حول مقدار إحياء الليل فهو في الحقيقة لتبيان التخيير، وأنّ النّبي (ص) مخيّر في الإستيقاظ في نصف الليل أو أقل من ذلك أو أكثر لقراءة القرآن، ففي المرحلة الأُولى يذكر الليل كلّه إلاّ قليلاً منه، ثمّ يخففه ليوصله إلى النصف، وبعدئذ إلى أقل من النصف.
وقيل: المراد هو التخيير بين الثلث الثّاني والنصف والثلث الأوّل، بقرينة الآية التي في آخر السورة: (إنّ بربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) ويستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ النّبي (ص) لم يكن وحده الذي يقوم الليل، بل معه عدّة من المؤمنين كانوا ملتزمين أيضاً بهذا النظام للبناء الذاتي والتربية والإستعداد متخذين النّبي (ص) اُسوة لهم.
وقال البعض: إنّ المراد من "قم الليل إلاّ قليلاً"، هو القيام في الليالي كلّها إلاّ بعض الليالي، وليس الإستثناء في أجزاء الليل، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب حيث أنّ الليل جاء بصيغة مفرد "ليل"، وجاء التعبير بالنصف أو أقل النصف.
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ أي المتزمل أدغم التاء في الزاء من تزمل تلفف بثيابه خوطب به (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه ارتعد بدء مجيء جبرئيل فقال زملوني أو كان يتزمل بثيابه للنوم أو للصلاة أو من تزمل أي تحمل الحمل أي المتحمل لأعباء النبوة