ثم يضيف في الآية الأُخرى ويقول: إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم، فيقول تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره).
سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان، كالآية (20) من سورة فصلت حيث يقول الله تعالى: (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون).
والآية (رقم 5) من سورة يس: (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).
وعلى هذا فإنَّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة هو نفسهُ، لأنهُ أعرف بنفسه من غيره، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أُخرى كثيرة لإتمام الحجّة عليه.
"بصيرة": لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والإطلاع)، ومعنى وصفي (الشخص المطّلع) ولذا فسّره البعض بمعنى (الحجة والدليل والبرهان) والذي هو واهب للمعرفة (10).
"معاذير": جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب، وقد تكون أحياناً أعذاراً واقعية، وأُخرى صورية وظاهرية.
وقيل: المعاذير جمع معذار، وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه، والأوّل أوجه.
على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو المطّلع على الأسرار الداخلية والخارجية، وكذلك نفس الإنسان المحاسب لنفسه، كما جاء في الآية (14) من سورة الإسراء: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).
إنّ الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلّها عن المعاد والقيامة، فإنَّ مفهومها واسع، ولذا فإنَّها تشمل عالم الدنيا، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجههُ الحقيقي بالكذب والإحتيال والتظاهر والمراءات.
لذا ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) حيث قال: "ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويسرّ سيئاً أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك، والله سبحانه يقول: (بل الإِنسان على نفسه بصيرة) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية" (11).
وورد أيضاً في حديث صيام المريض عن الصادق (ع) عندما سأله أحد أصحابه: ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام: " بل الإِنسان على نفسه بصيرة، هو أعلم بما يطيق" (12)
﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ حجة واضحة لشهادته بما عملت أو بصير أي عليم بها والهاء للمبالغة.