الآية الأُخرى التي تقول: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة) قرينة واضحة على المعنى الأوّل، وإن كان البعض يرى أنَّ الإنسان في الآية الأُولى يراد به آدم (ع)، والإنسان في الآية الثّانية يراد به أولاده، ولكنَّ هذا الاختلاف في هذه الفاصلة القصيرة مستبعدٌ جدّاً.
وهناك أقوال في تفسير (لم يكن شيئاً مذكوراً) منها: إنَّ الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً عندما كان في عالم النطفة والجنين، وإنّما أصبح ممّن يذكر عندما طوى مراحل التكامل فيما بعد; ففي حديث ورد عن الإمام الباقر (ع) "كان الإنسان مذكوراً في علم الله ولم يكن مذكوراً في عالم الخلق" (2).
وجاء في بعض التفاسير أنَّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قبل انتشار العلم، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهوراً في حياتهم وبعد موتهم.
وقيل "إنَّ عمر بن الخطاب" قد سمع أحداً يتلو هذه السورة فقال: "ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده" (3) وهذا من عجائب القول، لاعتراضه على مسألة الخلق.
ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذكره، فيقول تعالى (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً).
"أمشاج": جمع مَشَجْ، على وزن (نسج) أو (سبب)، أو أنه جمع "مَشِيجْ" على وزن (مريض) بمعنى المختلط.
ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث، وقد أُشير إلى ذلك في روايات المعصومين (عليهم السلام) بصورة إجمالية، أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات، أو أنَّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة، لأنَّها تتركب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.
ويحتمل كون "الأمشاج" إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية (4).
"نبتليه": إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والإِختبار والإمتحان، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلاً للتكليف وتحمل المسؤولية، وبما أنَّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلاَّ بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة، والعين والأُذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.
وقيل المراد بالإبتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنساناً كاملاً، ولكن التمعن في عبارة "نبتليه"، وكذلك في كلمة "الإنسان" نجد أنَّ المعنى الأوّل هو الأوجه.
وممّا يستفاد من هذه العبارة أنَّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي إدراكاته الحسية، وبعبارة أخرى إنَّ الإدراكات الحسية هي أُمُّ المعقولات، وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضاً.
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ﴾ أخلاط لأنه من مجموع ماء الزوجين ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾ بسبب الابتلاء ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ليسمع الآيات ويبصر الدلائل فتلزمه الحجة.