ويقول تعالى أيضاً: (ومن الليل فاسجد له وسبّحه ليلاً طويلاً).
لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.
(بكرة) على وزن (نكتة) يعني بداية اليوم، و (أصيل) نقيض بكرة، أي آخر اليوم.
وقيل إنّ إطلاق هذه اللفظة على آخر اليوم مع أنّها مشتقة من مادة (أصل) هو كون آخر اليوم يشكل الأصل والأساس للّيل.
ويستفاد من بعض التعابير أنّ (أصيل) تطلق أحياناً على الفترة ما بين الظهر والغروب (مفردات الراغب الأصفهاني).
ويظهر من آخرين أنّ (أصل) يقال لأوائل الليل، لأنّهم فسروا ذلك بـ "العشي" والعشي هو بداية الليل كما يقال لصلاتي المغرب والعشاء بالعشائين، حتى أنّه يستفاد من بعض الكلمات أنّ "العشي" هو من زوال الظهر حتى صباح الغد (1) ولكنّ بالإلتفات إلى أنّ كلمة (أصيل) وردت في الآية الشريفة في مقابل "بكرة" ثمّ تحدثت الآية بعد ذلك عن العبادة الليلية.
يتّضح أنّ المراد هو الطرف الآخر للنهار.
على كل حال فإنّ هاتين الآيتين في الحقيقة تأكيد لضرورة التوجّه الدائم والمستمر لذات الله المقدسة.
وقال آخرون: إنّ المراد هو الصلوات الخمس، أو بإضافة صلاة الليل، أو خصوص صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء ولكنّ الظاهر هو أنّ هذه الصلوات مصاديق من هذا الذكر الإلهي المستمر والتسبيح والسجدة لمقامه المقدس.
التعبير بـ (ليلاً طويلاً) إشارة إلى ضرورة التسبيح لفترة طويلة من الليل، ففي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) لمّا سئل عن المقصود من التسبيح في هذه الآية؟ قال (ع): "هو صلاة الليل" (2).
ولا يستبعد أن يكون هذا التفسير من باب تبيان المصداق الواضح لما تترك صلاة الليل من الأثر البالغ في تقوية روح الإيمان، وتهذيب النفوس.
والحفاظ على حيوية إرادة الإنسان في طريق طاعة الله.
ويجب هنا الإلتفات إلى أنّ الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبي (ص)، فهي في الحقيقة دستوراً يحتذي به كلّ من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والإستقامة، وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة، وهي كذلك دائماً، ولم تثمر الرسالة إن لم يمتلك قادتها الصبر والإستقامة.
وفي المرحلة الأُخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقاً للآثم والكفور، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع الحيل والمكائد، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد، ويذكروا الله تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوة الإرادة والعزم الراسخ، والإستمداد من العبادات الليلية، والمناجات مع الله، فإذا ما روعيت هذه الاُمور فالنصر حتميٌ، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الأُصول، ومنهج الرسول (ص) وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع السالكين في هذا الطريق.
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ بعضه ﴿فَاسْجُدْ لَهُ﴾ فصل العشاءين له ﴿وَسَبِّحْهُ﴾ تهجد له ﴿لَيْلًا طَوِيلًا﴾.