التّفسير
خلوّ القرآن من الإِختلاف دليل حي على إِعجازه:
هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد، وتطلب منهم - بصيغة السؤال - أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقص والإِختلاف، وإِذا تحقق لديهم عدم وجود الإِختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من الله تعالى.
والتّدبر من مادة "دبر" وهو مؤخر الشيء وعاقبته "والتدبر" المطلوب في هذه الآية هو البحث عن نتائج آثار الشيء، والفرق بين التدبر والتفكر هو أنّ الأخير يعني التحقيق في علل وخصائص الموجود، أمّا التدبر فهو التحقيق في نتائجه وآثاره.
ونستدل من هذه الآية على عدّة أُمور:
1 - إِنّ الناس مكلّفون بالبحث والتحقيق في أُصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحقانية القرآن، وأن يتجنّبوا التقليد والمحاكاة في مثل هذه الحالات.
2 - إِنّ القرآن - خلافاً لما يظن البعض - قابل للفهم والإِدراك للجميع، ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر الله بالتدبر فيه.
3 - أحد الأدلة التي تثبت أنّ القرآن حقّ، وأنّه منزل من الله الحكيم العليم خلوه المطلق من كل تناقض أو إختلاف.
ولتوضيح هذه الحقيقة نقول:
الجوانب الروحية للإِنسان تتغير باستمرار، "قانون التكامل" - في الظروف العادية الخالية من الأوضاع الإِستثنائية - يستوعب الإِنسان وجوانبه الروحية وأفكاره، وبمرور الأيّام يتغير بموجب هذا القانون كلام الإِنسان وفكره وأحاديثه.
لو أمعنا النظر فيما يكتبه الكتاب، لما وجدنا مؤلفات الكاتب الواحد على نمط واحد، بل أن بداية كل كتاب تختلف أيضاً عن نهايته.
هذا التغيير يزداد سرعة حين يعيش الإِنسان في خضم أحداث كبرى كالتي تصاحب إِرساء قواعد ثورة فكرية وإجتماعية وعقائدية شاملة، الشخص الذي يعيش مثل هذه التحولات الإِجتماعية الكبرى لا يستطيع أن يسيطر على وحدة يكلامه، ولا يمكنه أن يوجد إنسجاماً كام في أقواله، خاصّة إِذا كان هذا الشخص غير متعلم، وكان ناشئاً في بيئة إجتماعية متخلفة.
والقرآن كتاب نزل خلال مدّة (23) عاماً بحسب ما يحتاجه الناس من تربية وتوجيه في الظروف المختلفة، وموضوعات القرآن متنوعة، فهو لا يشبه كتاباً عادياً متخصصاً في بحث إِجتماعي أو سياسي أو فلسفي أو حقوقي أو تاريخي، بل هو يتحدث تارة عن التوحيد وأسرار الخليقة، وتارةً يطرح القوانين والأحكام والآداب والسنن، وتارةً يقص علينا أخبار الأُمم السابقة، وتارة يتناول المواعظ والنصائح والعبادات وإرتباط العبد بخالقه.
وكما يقول (غوستاف لوبون): القرآن - كتاب المسلمين السماوي - لا يقتصر على التعاليم الدينية، بل يتناول - أيضاً - الأحكام السياسية والإِجتماعية للمسلمين.
مثل هذا الكتاب - بهذه الخصائص - لا يمكن أن يكون - عادة - خالياً من التناقض والتضاد والإِختلاف والتأرجح، أمّا حين نرى هذا الكتاب - مع كلذلكـمتناسقاً متوازناً في آياته خالياً من كل تضاد وإختلاف نستطيع أن نفهمـبوضوح - أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر بشري، بل هو من قبل الله تعالى، كما تذكر الآية الكريمة أعلاه.
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ يتبصرون ما فيه من بلاغة ألفاظه وجزالة معانيه ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ﴾ كما زعم الكفار أنه قول بشر ﴿لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ من تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه لقصور القوة البشرية.