التّفسير
نشر الإِشاعات:
تشير هذه الآية إِلى حركة منحرفة أُخرى من حركات المنافقين أو ضعاف الإِيمان، تتمثل في سعيهم إِلى تلقف أي نبأ عن إنتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثّه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إِشاعةً عمد أعداء المسلمين إِلى بثّها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيئوا إِلى معنويات المسلمين ويضروا بهم، (وإِذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به...).
بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إِلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنبوا دفع المسلمين إِلى حالة من الغرور حيال إنتصارات خيالية وهمية، أو إِلى إضعاف معنوياتهم بإِشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها، (ولو ردّوه إِلى الرّسول وإِلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم...). "يستنبطونه" من مادة "نبط" التي تعني أوّل ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع، والإِستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.
(أُولي الأمر) في الآية هم المحيطون بالأُمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقياً منها وما كان إِشاعة فارغة.
وهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤه من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بالدّرجة الأُولى.
ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل.
روي عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) في تفسير (أُولي الأمر) في هذه الآية قال: "هم الأئمّة" كما في تفسير نور الثقلين، وهناك روايات أُخرى أيضاً في هذا المجال بنفس المضمون.
يولعل هناك من يعترض على هذه الرّوايات قائ: إِنّ الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) لم يكونوا موجودين في زمن نزول هذه الآية، ولم يتعين أحد منهم في ذلك الوقت بمنصب الإِمامة أو الولاية، فكيف يمكن القول بأنّهم هم المعنيون بهذه الآية؟
والجواب على هذا الإِعتراض: هو أنّ هذه الآية مثل سائر الآيات القرآنية الاُخرى لا تقتصر على زمن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، بل تحمل حكماً عاماً يشمل كل الأزمنة والقرون التالية لمواجهة الإِشاعات التي يبثّها الأعداء أو البُسطاء من المسلمين بين الأُمّة.
أضرار إختلاق الإِشاعة ونشرها:
لقد اُبتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات الرهبية، بسبب بروز ظاهرة إختلاق الإِشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت تؤثر تأثيراً سلبياً كبيراً على معنويات أفراد المجتمع، وتضعف فيهم الروح الإِجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد.
وتبدأ الإِشاعة بأن يختلق منافق كذبة، ثمّ ينشرها بين أفراد مغرضين أو بسطاء، ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها، بل يهولونها ويفرعونها ممّا يؤدي إِلى استنزاف مقدار كبير من طاقات الناس وأفكارهم وأوقاتهم، وإِلى إِثارة القلق والإِضطراب بينهم، وكثيراً ما تؤدي الإِشاعة إِلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، وتؤدي إِلى خلق حالة من اللامبالاة والتردد في أداء المسؤوليات.
ومع أنّ بعض المجتمعات التي تعاني من الكبت والإِرهاب تعمد إِلى الإِشاعة كأُسلوب من الكفاح السلبي، إنتقاماً من الحكومات الطاغية الجائرة، فالإِشاعة بحدّ ذاتها تعتبر خطراً كبيراً على المجتمعات السليمة، فإِذا إتجهت الإِشاعة إِلى الأفراد الكفوئين من المفكرين والخبراء والعاملين في المرافق الهامّة للمجتمع، فإِنّها ستؤدي إِلى حالة من البرود في نشاطات هؤلاء، وقد تصادر مكانتهم الإِجتماعية، وتحرم المجتمع من خدماتهم.
من هنا كافح الإِسلام بشدة "إختلاق الإِشاعات" والإِفتراء والكذب والتهمة، مثل ما حارب نشر الإِشاعات كما في هذه الآية.
وتؤكد الآية في ختامها على أنّ الله قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إِشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإِيمان، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة، ولولا الإِنقاذ الإِلهي ما نجى من الإِنزلاق في خط الشيطان إِلاّ يقلي: (يولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إِلاّ قلي) أي أنّ النّبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أمّا أكثرية المجتمع فلابدّ لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها(1).
﴿وَإِذَا جَاءهُمْ﴾ من الرسول أو من أمر إياه ﴿أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ﴾ أفشوه وتحدثوا به وكان فيه مفسدة ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي الأمر ﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يستخرجون تدبيره بأفكارهم وهم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بالإسلام والقرآن وروي بالنبي وعلي (ع) ﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ بالكفر ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ لقليل منكم.