لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة، يقول القرآن... إنّ عقاب المجرمين لواقع، ويوم القيامة لقريب: (إنّا أنذرناكم عذاباً قربياً). وما عمر الدنيا بكامله إلاّ ساعة من زمن الآخرة الخالد، وكما قيل: (كل ما هو آت قريب)، وتقول الآيات (5 - 7) من سورة المعارج، في هذا المجال: (فاصبر صبراً جميلاً إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً). ويقول أمير المؤمنين (ع): "كل آت قريب دان" (8). ولِمَ لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين) (9). وبعد أن وجّه الإنذار للناس، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة، حين لا ينفع ندم ولا حسرة، إلاّ مَن أتى اللّه بقلب سليم: (يوم ينظر المرء ما دمت يداه يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً). وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة "ينظر" في الآية بمعنى "ينتظر"، والمراد: انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله. وفسّرها بعض آخر بـ : النظر في صحيفة الأعمال. وقيل: النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال. وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة، ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة. وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة، وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة، ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة. وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين. كما نجد في الآية (49) من وسورة الكهف: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)، وكذا في آخر سورة الزلزال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره). في جملة "ما قدمت يداه" تغليب، لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالباً بيديه، ولكنه لا يعني الحصر، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واُذن، في الحياة الدنيا. وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) (10). وعلى أيّة حال، فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا، وعندما خلقنا في الدنيا، ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد! فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيراً منهم، لأنّه: تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلاً، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الاُخرى، مهد لحياة الإنسان، ومع ما له من فوائد جمّة فهو لا يضرّ قط، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم، فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم، فليس فيهم إلاّ الضرر والاذى! نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه كفر وذنوب! وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم، يوم الفزع الأكبر، فتقول الآية (56) من سورة الزمر: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب اللّه). وتقول الآية (12) من سورة السجدة: (فارجعنا نعمل صالحاً). أو ما يقوله كل فرد منهم - كما جاء في الآية المبحوثة ـ: (يا ليتني كنت تراباً). بحث النظرة الصائبة لمسألة "الجبر والإختيار"!! تعتبر مسألة (الجبر والإختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط العلماء، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان، ومنهم من يرى بأنّ الإنسان مجبور في أعماله، وكلّ منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى. ومن اللطيف أنّ كلا الفريقين، يقبلون عملياً بأنّ الإنسان مختار في أفعاله. وبعبارة اُخرى: إنّ البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث العلمي، أمّا على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الإختيار للإنسان. وهذا يظهر لنا بوضوح بأنّه أصل حرية الإرادة والإختيار من الاُصول التي انطوت عليها الفطرة الإنسانية، ولولا الوساوس المختلفة لاتفق الجميع على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان. إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموماً من أوضح أدلة الإختيار، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان. وعليه... فإذا كان الإنسان لا يقبل بالإختيار ويعتبر نفسه مجبوراً في أعماله فلماذا إذن: 1 - يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر به مستقبلاً، فإذا لم يكون مختاراً، فلماذا الندم؟! 2 - يلام ويُوبّخ كلّ مَن يسيء، فلماذا يلام إن كان مجبوراً في فعله؟! 3 - يُمدح ويحترم صاحب العمل الصالح. 4 - يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلاً زاهراً، وإذا كانت الأعمال جبرية، فلماذا هذا التعليم. 5 - يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟ 6 - يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب، أو هل للجبر مِن توبة؟! 7 - يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟ 8 - يحاكم المجرمون والمنحرفمون في كل دول العالم، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟ 9 - تضع جميع الاُمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟ 10 - مَن يقول بالجبر يصرخ متغنياً في وجه المحاكم لمعاقبة مَن اعتدى عليه؟ والخلاصة: إن لم يكن للإنسان اختيار، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟ أمِن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهراً؟! ثمّ لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم. والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماماً، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية، فلا مفهوم لها بدون الإعتراف أولاً بحرية الإنسان...ثمّ إن كنّا قد جعلنا على أعمالنا جبراً، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولِمَ الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح، والأكثر ظلماً معاقبته؟!! وكلّ ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية، وهو ما ينسجم تماماً والوجدان البشري العام، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم، وكما قيل في هذا الجانب: (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون). والقرآن الكريم حافل بما يؤكّد هذه الحقيقة، ونظراً لكثرة الآيات التي تؤكّد على حرية إرادة الإنسان - مضافاً الى الآية المبحوثة: (فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً) - سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم. ففي الآية (رقم 3) من سورة الدهر: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً). وفي الآية (29) من سورة الكهف، يقول تعالى: (فمن شاء فيؤمن ومَن شاء فليكفر). وجاء في الآية (29) من سورة الدهر أيضاً: (إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّّخذ إلى ربّه سبيلاً). الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدّاً، وقد كتبت في ذلك كتب ومقالات عديدة، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و (الوجدان)، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمّة وهي: إنّ الدوافع النفسية والإجتماعية قد اختلطت مع الإستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن يقولون بالجبر. فكثير ممن اعتقدوا بالجبر، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولية: أو أنّهم جعلوها غطاءً لفشلهم الناتج عن تقصيرهم وتساهلهم في أداء وظائفهم، أو جعلوها مبرراً لإتباع أهوائهم ونزواتهم الشيطانية. استغل المستعمر - في بعض الأحيان - هذه المقولة، وجدّ على نشر وتأكيد هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب، بعد أن يوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل اللّه على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاءً وقدراً ليأمن المستعمِر من المقاومة، يكسب رضاهم وتسليمهم له! فالإعتقاد بهذا الرأي... يعني تبرير كلّ ما يقوم به الطغاة والجناة، وتبرير جميع ذنوب المذنبين، وبالنتيجة: لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي!!... اللّهمّ! قِنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة... اللّهمّ! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنّم للطاغين مرصاداً، والجنّة للمتقين مفازاً... اللّهمّ! يا واسع المغفرة، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا... آمين ربّ العالمين نهاية سورة النبأ ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ﴾ أيها الكفار ﴿عَذَابًا قَرِيبًا﴾ عذاب الآخرة الآتي وكل آت قريب ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ من خير وشر ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ أي لم أخلق في الدنيا ولم أبعث اليوم أو حال البهائم إذ ترد ترابا بعد حشرها للقصاص.