وعلى أيّة حال، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: (فأخذه اللّه نكال الآخرة والاُولى) (4)
"النكال": لغةً: العجز والضعف.
ويقال لِمَن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل).
و (النِكل) - على وزن فكر - القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.
و"نكال": في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان، ويُخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب،.
"نكال الآخرة": عذاب جهنّم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه، و"عذاب الاُولى": إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.
وتقديم "نكال الآخرة" على عذاب الدنيا، لأهميته وشدّة بطشه.
وقيل: "الاُولى": تشير إلى كلمة فرعون الاُولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الاُلوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.
و"الآخرة": إشارة الى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعي (الرّبوبية العليا)، فعذّبه اللّه بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.
وقد اُشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقر (ع) قوله: "إنّ الفترة ما بين قوله الاُولى والآخرة كانت أربعين عاماً، وقد أخّر اللّه تعالى عذابه كلّ هذه المدّة إتماماً للحجّة عليه" (5).
ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية "أخذ" والذي يفهم منه تنفيذ كلّ العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تَعِدُّ العذابَ عبرةً للآخرين.
ويستخلص القرآن نتيجة القصّة: (إنّ في ذلك لعبرة لِمَن يخشى).
فتبيّن الآية بكلّ وضوح، إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من اللّه، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.
نعم... فقد اُغرق فرعون، واُهلك ملكه ودولته، وصار درساً شاخصاً لكل فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان، وعبرةً لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر ومصر، ولا يجني مَن سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه، وهي سُنّة اللّه، ولا تغيير ولا تبديل لسنّته جلّ شأنه.
بحث
بلاغة القرآن:
بنظرة ممعنة في الآيات الإحدى عشر المبحوثة، تتجلى لنا ذروة فصاحة وبلاغة القرآم الكريم، فبعبارات موجزة وسريعة، عرضت قصّه موسى (ع) مع فرعون وبتفصيل بياني محكم، حيث تناولت: بيان سبب الرسالة، هدف دعوة الرسالة، وسائل التطهير، كيفية الدعوة، اُسس مواجهة مخططات الأعداء، نماذج من الإدعاءات الباطلة، والإنتقام من الطغاة... فكل هذا وما حمل بين ثناياه من دروس حيّة للإنسانية، قد ورد في هذه الآيات القليلة الموجزة!
﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ﴾ مصدر مؤكد أي نكل به تنكيل ﴿الْآخِرَةِ﴾ أي فيها بالإحراق ﴿وَالْأُولَى ﴾ بالإغراق.