سبب النزول
نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفراً من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإِسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين، وأحجموا لذلك عن الهجرة إِلى المدينة، وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين، إِلاّ أنّهم اضطروا في النهاية إِلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إِلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين، كما حسبوا أن دخولهم إِلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين - لكن المسلمين إِنتبهوا الى حقيقة هؤلاء، غير أنّهم انقسموا إِلى فئتين، فئة منهم رأت ضرورة طرد أُولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإِسلام، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأُمور دون باطنها، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية
ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنّبوة، وقالوا: أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين: فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها، وترشدها إِلى طريق الحقّ الصواب(1).
التّفسير
استناداً إِلى سبب النزول الذي ذكرناه، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين.
فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إِلى فئتين، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين، حيث تقول: (فما لكم في المنافقين فئتين...)(2) وتنهي المسلمين عن الإِختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم، وتعاونوا مع المشركين، وأحجموا عن مشاركة المجاهدين، فظهر بذلك نفاقهم، ودلت على ذلك أعمالهم، فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإِيمان، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء، وقد أكّدت الآية السابقة أن: (من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها).
وتبيّن الآية بعد ذلك: إِنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح، وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإِنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه: (...والله أركسهم بما كسبوا...)(3).
وتدل عبارة "بما كسبوا" على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة، إِنّما يتمّ بعمل الإِنسان وفعله، وحين ينسب الإِضلال إِلى الله سبحانه عزّ وجلّ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إِنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.
وفي الختام تخاطب الآية أُولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد يله سبي).
إِذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه... وهذه سنة إِلهية... فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق، واتجهت أعمالهم إِلى حماية أعداء الله؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل(4).
﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ﴾ في شأنهم ﴿فِئَتَيْنِ﴾ فرقتين ولم يجتمعوا على كفرهم وهو حال عاملها ما لكم ﴿وَاللّهُ أَرْكَسَهُم﴾ ردهم إلى حكم الكفر أو خذلهم حتى ارتكسوا فيه ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ من الكفر وهم قوم قدموا من مكة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا وأظهروا الشرك وسافروا إلى اليمامة وقيل هم المتخلفون يوم أحد ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ﴾ تعدوا من جملة المهتدين ﴿مَنْ أَضَلَّ اللّهُ﴾ من حكم بضلاله ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ حجة.