لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة، ثمّ صنع منه مخلوقاً موزوناً مستوياً قدّر فيه جميع اُموره في مختلف مراحل حياته: (من نطفة خلقه فقدّره).
فَلِمَ لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!
لِمَ ينسى تفاهة مبدأه؟!
ألاَ يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه، وكيف جعله موجوداً بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!...
فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات، ومع ما منحه اللّه من مواهب واستعدادات... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.
"قَدَّره": من (التقدير)، وهو الحساب في الشيء... وكما بات معلوماً أنّ أكثر من عشرين نوعاً من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان، ولكلّ منها مقداراً معيناً ومحسوباً بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الإستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد، بل وفي المجموع العام للبشرية، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.
وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالاً وجلالاً، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر، ووضعناها في مكان واحد، لكانت بمقدار حمصة! نعم... فقد اُودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.
وقيل: التقدير بمعنى التهيئة.
وثمّة احتمال آخر، يقول التدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.
فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والإستطاعة، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى (4).
ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملةً واحدةً.
﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ قذرة ﴿خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ أطوارا حتى تم خلقه أو أحوالا ذكرا أو أنثى أو أعضاء وحواسا حسب مصلحته.