سبب النزول
لقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآية، وأشهرها هو أنّ نفراً من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتظاهرون بالإِسلام كذباً وخداعاً، وما أن يرجعوا إِلى قريش يعودون لعبادة الأصنام، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءاً لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم، بالإِضافة إِلى سعيهم لإِمرار مصالحهم لدى الطرفين، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.
التّفسير
عقاب ذي الوجهين:
إِنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين، همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (ستجدون آخرين يريدون أنْ يأمنوكم يأمنوا قومهم...).
وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكساً على رؤوسهم (كلّما ردّوا إِلى الفتنة أُركسوا فيها...).
وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إِيذاء المسلمين، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إِيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.
وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من إنتقام المسلمين، وهذه الشروط هي: إعتزال المسلمين، أو مصالحتهم، أو الكف عن إِيذائهم حيث تقول الآية الكريمة: (فإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِليكم السّلم ويكفّوا أيديهم...).
وإِذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإِلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا، كما تقول الآية: (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم).
ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء، تقول الآية في الخاتمة: (أُولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً).
وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين، وقد يكون سلطاناً مادياً ظاهرياً عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.
وتشير عبارة "ثقفتموهم" الواردة في الآية إِلى احتياج المسلمين إِلى الدقة والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والإِنفلات من العقاب، فعبارة "ثقفتموهم" مشتقة من المصدر "ثقافة" الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة، بينما الفعل "وجد" يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.
﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ﴾ قيل هم ناس أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا ﴿كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ﴾ دعوا إلى الشرك ﴿أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ﴾ صادفتموهم ﴿وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾ حجة بينة على قتلهم وسبيهم لوضوح عداوتهم وكفرهم.